نشأته ودراسته
ولد بافلوف في ( ريازان (التي تقع حاليًا بالمنطقة الاتحادية المركزية في روسيا في 14 سبتمبر 1849 م ، وكان الأكبر بين أحد عشر ابناً لوالده ( بيتر دميترييفيتش بافلوف 1823 ـ 1899 ) وكان قساً لإحدى القرى .
تعلم إيفان بافلوف القراءة في السابعة من عمره ، إلا أنه لم يلتحق بالمدرسة بشكل رسمي إلا في سن الحادية عشرة ، بسبب تعرضه لإصابات جسيمة من جراء سقوطه من سور مرتفع على رصيف حجرى ، أنهى بافلوف تعليمه الأولي في مدرسة الكنيسة في ريازان ، ثم التحق بمعهد اللاهوت بها ، إلا أنه ترك المعهد سنة 1870 م ، ليلتحق بجامعة سانت بطرسبورج .
أبدى بافلوف منذ طفولته تفوقًا عقليًا وطاقة غير عادية أطلق عليها هو ( غريزة البحث ) وهجر دراسته الدينية متأثراً بالأفكار التقدمية التي كان ينشرها كل من دميتري بيساريف ـ أبرز نقاد الأدب الروس في ستينيات القرن التاسع عشر ـ وإيفان سيتشينوف ( أبي الفسيولوجيا الروسية) ، ليكرس حياته للعلم ، فالتحق سنة 1870 بقسم الفيزياء والرياضيات بجامعة سان بطرسبرغ الحكومية تمهيدًا لدراسة العلوم الطبيعية .
في عامه الجامعي الرابع فاز بحثه الأول عن الفسيولوجيا العصبية للبنكرياس بجائزة جامعية رفيعة ، وفي سنة 1875 م ، أنهى بافلوف دراسته بتفوق كبير في مجال العلوم الطبيعية ، لكنه كان مدفوعاً بشغف كبير لدراسة علم وظائف الأعضاء ( الفسيولوجيا ) ، فالتحق بالأكاديمية الطبية الجراحية ، حيث حصل على درجة الدكتوراه سنة 1878 ، ثم حصل على ميدالية ذهبية سنة 1879 تقديراً لتفوقه ، وبعد امتحان تنافسي نجح بافلوف في الفوز بزمالة في الأكاديمية ، وهو ما مكنه ( بالإضافة إلى منصبه كمدير لمختبر علم وظائف الأعضاء بعيادة الطبيب الروسي الشهير سيرجي بوتكين ، من مواصلة أعماله البحثية ، وفي سنة 1883 قدم بافلوف أطروحته للدكتوراه ، وكانت عن أعصاب القلب )
بعد الانتهاء من الدكتوراه ، ذهب بافلوف إلى ألمانيا حيث درس في جامعة لايبزج مع ( كارل لودفيج ) في مختبرات هايدنهاين في بريسلاو فى الفترة من ( 1884 الى 1886 ) ، ودرس عملية الهضم فى الكلاب ، بعد انتهاء العامين عاد بافلوف من ألمانيا ليبحث له عن مكان جديد فى روسيا ، فقدم طلب لقسم الفسيولوجيا بجامعة سانت بطرسبورج ، إلا أنه رفض ، وفى نهاية المطاف ، حصل على كرسي في قسم الصيدلة بجامعة تومسك ، ثم في جامعة وارسو .
وفي عام 1890 م ، تم تعيينه أستاذاً لعلم الصيدلة في الأكاديمية الطبية العسكرية وظل فى هذا المنصب لمدة 5 سنوات ، ثم دعي بافلوف إلى معهد الطب التجريبي في عام 1891 لتنظيم وإدارة قسم علم وظائف الأعضاء ، وعلى مدى فترة 45 سنة من إدارته للقسم ، أصبح واحداً من أهم مراكز الأبحاث الفسيولوجية ، وخلال رئاسته للقسم ، انتقل أيضاً لرئاسة قسم الفسيولوجيا فى الأكاديمية الطبية العسكرية ، وذلك فى عام 1895 م ، ولمدة ثلاثة عقود متتالية ، وببداية عام 1901 ، تم ترشيح بافلوف للحصول على جائزة نوبل فى الفسيولوجيا والطب لأربع سنوات متتالية ، ولكنه لم يفز فى أى منها لأن ترشيحه لم يكن على إكتشاف محدد ، وإنما على مجموعة متنوعة من النتائج المعملية ، وفي عام 1904، حصل بافلوف أخيراً على جائزة نوبل ( تقديرا لعمله على فسيولوجيا الهضم ، من خلال المعلومات الهامة التى ساعدت على فهم العملية وتوسيع المدارك حولها ، بعد أن أجرى العديد من الإختبارات على الغدد الهضمية عندما كان فى معهد الطب التجريبى )
عمل بافلوف على وظائف الأمعاء عند الكلاب ، ثم انتقل بعدها لدراسة الهضم عند الأطفال ، عندما قام بالعمل على الغدد اللعابية ومعرفة تأثير اللعاب على هضم الطعام تحت ظروف مختلفة ، وقد لاحظ أن الكلاب تميل الى إسالة لعابها قبل وصول الطعام الى الفم ، وهو ما سماه ( إفراز نفسى ) ، وقد ضم مختبر بافلوف مجموعة كبيرة من حيوانات التجارب ، وكان مهتماً بمراقبة العمليات الفسيولوجية طويلة المدى التى تحدث لها ، وهو ما يعنى بقائها حيه لمدة طويلة ، وبصحة جيدة لكى يجرى عليها ما أسماه بـ ( التجارب المزمنة ) ، وكان يهدف من هذه التجارب الطويلة إلى فهم الوظائف الطبيعية للحيوانات ، كان هذا نوع جديد من الدراسة ، وذلك لأن التجارب في السابق كانت ( حادة ) ، مما يعني وفاة الكلب بعد إجراء التجربة عليه أو تشريحه .
ميراثه العلمى :
طور بافلوف فى عام 1901 مع مساعده ( إيفان فيليبوفيتش ) ما سماه بـ ( الإنعكاس أو رد الفعل الشرطى ) لدى الكلاب ، وذلك بأن يتم رن جرس معين عند تقديم الطعام للكلاب ، وبعد ربط تقديم الطعام بصوت الجرس ، وجد أن لعاب الكلاب يسيل عند سماع رنة الجرس ، لإرتباط صوت الجرس بتقديم الطعام ، وقد قدم أبحاثه هذه فى مؤتمر العلوم الطبيعية فى هلسنكى عام 1903 م ، ثم قدم ورقة بحثية أكثر دقة فى المؤتمر الطبى الدولى الرابع عشر بمدريد تحت عنوان ( علم النفس التجريبى وعلم النفس المرضى للحيوانات )
وبعد أن انتشرت أفكاره فى الغرب أصبحت فكرة التكيف كشكل تلقائي للتعلم ركيزة أساسية لتطوير مفهوم علم النفس المقارن ، والأساس لدراسة السلوك ، وكان لعمل بافلوف على ( رد الفعل العكسى ) تأثير كبير على الكيفية التي ينظر بها البشر لأنفسهم ، ولسلوكهم ولعملية التعلم ، وأصبحت دراساته محوراً أساسياً في العلاج السلوكي الحديث ، كما دافع الفيلسوف البريطاني برتراند راسل عن أهمية أبحاث بافلوف لفلسفة العقل ، وكما أضافت دراسات بافلوف للعلم ، أضافت أيضاً للثقافة الشعبية ، عن طريق ربط الأفعال بمجموعة أخرى من المثيرات التى تشمل الصدمات الكهربية ، وبعض الأصوات والمؤثرات البصرية المختلفة بالإضافة لصوت الجرس ، ومن غير المعروف للكثيرين أن أبحاث بافلوف على ( رد الفعل العكسى ) قد أجريت على أطفال كثيرين ، بعضهم أثناء عمليات جراحية ، كتلك التى تمت على الكلاب لجمع لعابها .
كما طوّر بافلوف تعاليم ( سيتشينوف (مؤسّس علم النفس المادّي في روسيا عن الطبيعة الانعكاسيّة للنشاط العقلي ، وتمكّن بمنهج الانعكاسات الشرطيّة من اكتشاف القوانين والآليات الأساسيّة لنشاط الدّماغ ، وأدّت دراسة بافلوف لفيسيولوجيا عمليّة الهضم إلى فكرته القائلة بأنّ منهج الانعكاسات الشرطيّة يمكن أن يستخدم لبحث السلوك والنشاط العقلي للحيوانات ، وقد أفادت ظاهرة ( إفراز اللّعاب نفسيّاً ) والعديد من الأبحاث التجريبيّة كأساس للنتيجة التي توصّل إليها عن الوظيفة الإشاريّة للنشاط النفسي ولتوضيح تعاليمه عن النظامين الإشاريين ، ويوفّر مذهب بافلوف ككلّ الأساس العلمي الطبيعي لعلم النفس المادّي .
فى عام 1921 ، نشر مورجوليس مقالاً نقدياً فى مجلة العلوم ، يشكك فيه بموضوعية البيئة التى تمت فيها تجارب بافلوف وأبحاثه ، إستناداً الى أحد التقارير من صحفى يدعى ( ويلز ) حول نمو البطاطس والجزر بمختبر بافلوف ، وذكر المقال أنه مما يثلج الصدر أنه تم التأكد من أن البروفيسور بافلوف يثير البطاطا فقط بإعتبارها هواية ، وما زال يعطى للعلم أفضل تحليلاته العبقرية !!
أيضا في عام 1921، بدأ بافلوف فى عقد اجتماعات دورية بمعمله ، عرفت بلقاء الأربعاء ، تحدث فيها بصراحة حول العديد من الموضوعات ، بما في ذلك وجهة نظره بشأن علم النفس. استمرت هذه الاجتماعات حتى وفاته في عام 1936 م .
والطريف أنه عندما حانت لحظة وفاته ، كلف أحد تلاميذه بتدوين ما يحدث له على فراش الموت ، لقد أراد أن يخلق حالة فريدة من التجارب الشخصية للحظة وفاته ، وقد توفى فى 27 فبراير 1936 م ، نتيجة إلتهاب رئوى حاد وهو فى سن 96 عاماً ، وأقيمت له جنازة ضخمة ، وتم تحويل معمله الى متحف حفظت فيه أبحاثه ودراساته تكريماً له .
حياته الشخصية :
تزوج ايفان بافلوف فى الأول من مايو عام 1881 م من ( سيرافيما فازيليفنا كارشيفسكايا 1855 ـ 1947 ) والتى غيرت إسمها الى ( ساره ) ، بعد أن التقيا فى سانت بطرسبورج قبلها بعامين ( 1879 ) ، عندما أتت للدراسة فى المعهد التربوى بالمدينة ، وقد شابت السنوات التسع الأولى من زواجهما مشاكل مالية ، إضطرتهم الى السكن مع آخرين لعدم مقدرتهم على السكن فى منزل مستقل ، بل إضطروا الى الإنفصال أحياناً حتى يمكن استضافتهم لدى آخرين ، مما سبب لهم الكثير من الإحباط ، حتى أن حمل سارة الأول انتهى بالإجهاض ، وتم الحمل الثانى بعد إحتياطات كبيرة بوصول إبنهم الأول ( ميرشك ) الذى توفى بعد فترة قصيرة من ولادته ، فى أحد المنازل الريفية ، نتيجة لأحد الأمراض الصيفية ، إلا أنهم رزقا فى نهاية المطاف بثلاثة أطفال هم (فسيفولود ، فلاديمير ، وفيرا ) توفي ابنهما الأصغر ، فسيفولود ، من سرطان البنكرياس في عام 1935، قبل وفاة بافلوف نفسه بسنة واحدة فقط .
عند قيام الإتحاد السوفيتى ، أثنى لينين كثيراً على بافلوف ودعمته الحكومة السوفيتية بمال وفير لتطوير معمله وأبحاثه رغم كبر سنه ، إلا أنه لم يحاول إخفاء رفضه للفكر الشيوعى ، ففى عام 1923 قال أنه لن يضحى حتى ولو بقدم ضفدع لدعم هذه التجربة الإجتماعية التى يعتمدها النظام فى روسيا ، وكتب الى ستالين عام 1927 اعتراضاً على ما حدث للمثقفين الروس قائلاً أنه يخجل من كونه روسياً ، بعد مقتل سيرجي كيروف في عام 1934، كتب بافلوف عدة رسائل إلى مولوتوف ينتقد فيها الاضطهاد الجماعى ، وطلب إعادة النظر في حالات متعلقة بعدة أشخاص يعرفهم شخصيا .
من مؤلّفاته
عشرون عاما من الدراسة الموضوعيّة للنشاط العصبي الأعلى عند الحيوان ( 1933 )
محاضرات في عمل نصفي الكرة المخية ( 1927 ) .