تقع قلعة عتيقة فى القاهرة القديمة على بعد 300 متر من ضفة النيل اليمنى ، وقد أطلق الأوروبيون عليها اسم بابليون ، أما العرب فقد سموها قصر الشمع ، وتمتد هذه القلعة نحو القاهرة وجبل المقطم ، ونجد حولها أنقاضاً مختلفة ، وتحتوى على مكان خاص بالمسيحيين ( بندر ) وقد بُنى جزء من سور القلعة فى العصر الرومانى وكان من أحجار حمراء ضخمة غير مصقولة ، وجزء آخر من قواعد متوالية من الدبش والطوب ذى الحجم الكبير .
وكانت الأحجار متوغلة داخل طبقات سميكة من المونة ، وهذا البناء الحديث الذى استخدمت فيه مواد رديئة غيرت التخطيط الأصلى للسور ، حيث يبدو شكل السور حالياً غير متساوٍ ، وكان طول السور حوالى ثلاثمائة متر ، أما عرضه فكان حوالى مائة وخمسين أو مائتى متر .
وتوجد أماكن على السور تتكون من ضف أحجار يعقبه صف من الطوب ، حيث كان ارتفاع الحجر تسعة ديسيميترات ، أما الطوب فكان أربعة ديسيميترات ونصف ، ويوجد فى الجهة الجنوبية الغربية وبين برجين باب ذو عقد مقوس ، وكان هذا الباب مسدوداً بأطلال رومانية الطراز من أحجار كلسية ، وذه الأنقاض كانت تغطى عقد القوس ولا يظهر منه إلا قطع منقوشة وعقاب على حافة أفريز . ويمكن القول بأن الطابع الهندسى لهذا الباب لا يتمتع بذوق رفيع لكن العناية التى نفذت بها التفاصيل بالرغم من تبديل النقوش ، إلا أنه من اليسير الإعتراف بأن العمل كان دقيقاً . ويوجد أعلى عقد القوس يساراً أحجار ضخمة عليها كتابات هيروغليفية وقرص مجنح على جانبية ثعبانان منتصبات ، وهذا رمز يضعه المصريون القدماء على عتب أبواب معابدهم .
ومن المحتمل أن يكون هذا الحجر قد أُخذ من البنايات المهدمة فى العصر الذى بنى فيه الرومان المنتصرون على مصر ـ والحصن نفسه تأكيداً لهذا الإنتصار ، ويحتمل أن ذه الأحجار وقعت من أحد المبانى أثناء هذا الغزو .
واعتدنا أن نرى بين الأطلال قطعاً أثرية قديمة ، ولكن مما يؤسفنا ويثير مشاعرنا استعمال هذه القطع العريقة لبناء مبان جديدة ، وهذه العملية تهيج أفكارك وتذكرك بالأجيال التى اختفت من الأرض وبالأجيال القادمة ، وتجعلك تحلم بالماضى والمستقبل معاً .
واذا بعدت عن الحصن حوالى ثلاثمائة متر متجهاً نحو الشمال الى الشمال الشرقى ، فسوف تجد جُزءاً من سور بنى فى عهد الرومان ، وهو ينتمى الى القلعة ، كذلك نجد فى أحد أبراج الحصن سُلماً وقاعة سقفها مرفوع بأعمدة ذات طراز رومانى .
والدخول الى قصر الشمع يتم عن طريق باب منخفض جداً لدرجة أنك تدخل محنى الظهر ، تبدو الشوارع ضيقة لدرجة أنك تمشيها على الأقدام فقط والشارع الرئيسى مزدحم بالمحلات ، أما المنازل فمنها الخاص وهناك أديرة للراهبات الأقباط اليونانيات ، وقد وجدنا هذه المنازل والأديرة خالية من آثار العصر القديم .
ووصل عدد أديرة الراهبات التى إكتشفناها الى ستة أديرة ، ويطلق عليا حالياً إسم ( سان جورج البابيلونى ) ويوجد حول الأديرة حدائق من النخل ، ويحكى أن السيدة مريم لجأت مع السيد المسيح الى مصر عندما كانت مضطهدة من ( هيرود ) واختفت فى مغارة تحت الأرض ، وأصبحت ذه المغارة مقدسة ورمزاً للإحترام ، وكان القساوسة يتحدثون عنها مع الناس .
وكان سكان قصر الشمع يستخرجون مياه الشرب ورى الحدائق من بئر عميقة تقع خارج القلعة فى إتجاه النيل وتسحب منها المياه عن طريق بكره وحبل ثم تمر المياه عبر قناه الى داخل الحصن ، والأثار الموجودة حول قصر الشمع عبارة عن أطلال لمدينة بابليون ( إسترابون ) جنوبى الدلتا تقريباً أمام أهرامات منف .
وكان الرومان يستخدمون مائة وخمسين عبداً لرفع مياه النيل بآلات مائية .
وتوجد كمية كبيرة من الأنقاض التى تكلمت عنها سابقاً فى الجهة الشرقية لأهرامات الجيزة وتنتشر حتى النيل نحو السلسلة العربية حيث تظهر الصخور الجيرية على بعد خمسمائة أو ستمائة متر عن النهر ، كما توجد على عدة تلال . وعدد هذه الأحجار قدره ( أنطونيانوس ) بحوالى 12 ألف حجر من بابليون حتى هليوبوليس وهى تقريباً المسافة من قصر الشمع حتى مسلة المطرية .
إن جميع الظروف والأدلة المختلفة التى جمعناها تشير الى أن قصر الشمع كان تحت الحكم الرومانى وكان الحصن يعتبر مقر بابليون حسب رأى ( إسترابون ) .
إن بابليون مصر حسب رأى ( ستيسياس ) و ( ديودور ) و ( استرابون ) قد شُيد من طرف البابليين فى عهد سميراميس الذى احتل مصر ، أو بُنى على يد أسرى ( سيزوستريس ) الذى أتى بهم الى مصر بعد أن أخضع البابليين ، وهذان الرأيان غير صحيحين ، وإلا كيف تفسر سكوت هيرودوت عن مدينة قديمة مثل هذه وتاريخها مربوط بتاريخ مصر .
وقد بنيت هذه المدينة حسب إعتقادى فى عهد البابليين الذين إحتلوا مصر بعد غزو قمبيز ، وحسب رأى ( فلافيوس جوزيف ) لم تكن بابليون قد أقيمت بعد عند مرور هيرودوت فى هذه المدينة التى لم تكن ذات أهمية ولا تلفت الأنظار ، ورغم أن المؤرخين غير مُتأكدين من أصل وتاريخ مدينة بابليون ، فإن إسمها ينتسب حسب رأيهم الى المستعمرين أو العبيد أو إلى جُدرانها ، ولذلك أطلقوا عليها اسم بابليون عند تأسيسا .
وقد وضع الرومانيون ثلاث فرق عسكرية تحت قيادة ( أغسطس ) لحماية مصر ، اهتم قياصرة المشرق بتزيين مصر حتى عهد ( هيراكليوس ) الذى سقطت فى عهده مصر فى أيدى المسلمين الذىن حاصروا بابليون بجيشها المكون من يونانيين وأقباط لمدة سبعة أشهر ، وبعد ضعف قائد الجيش الذى عُزل فى جزيرة الروضة سقط بابيلون مصر عام ثمانى عشرة هجرية ، وصارت مصر ولاية تابعة للدولة الإسلامية بقيادة عمرو بن العاص قائد الجيش العربى .
وقد حاول بعض ( الأبطال ) اليونانيين المقاومة لحماية الحصن ، ولكن بعد أيام قليلة استولى عليه المسلمون وأسسوا فيه مبانى جديدة غيرت من مظهر المدينة واطلقوا عليها إسم ( فسطاط ) وقد أطلق هذا الإسم عمرو بن العاص وهو اسم عربى يعنى ( الخيمة ) وبناء على زعم المؤرخين العرب فعندما كان عمرو بن العاص هادم المدن ( حسب تعبير دوبوا إيميه ) ذاهباً لفتح الأسكندرية لم يهدم خيمته لكى لا يقلق حمامة تبنى عشهاً عليا .
وقد وجد العرب فى حصن بابليون معبداً للنار خاصاً بالديانة والمذهب الفارسى فأطلقوا عليه اسم ( قبة الدخان ) ويحتمل أن هذا الإسم اشتق منه إسم ( قصر الشمع ) الذى أطلق على الحصن آنذاك .
إن التشابه بين اسم قصر الشمع واسم بابليون فريد من نوعه ، وهو أدبياً يعنى قصر الشمع أما بالكناية فيعنى قصر النور ، واسم بابليون يعنى باب الشمس وحسب علماء اللغات الشرقية يعنى أيضاً مدينة النور أو المدينة المضيئة أو مدينة المجد . .. الخ .
وقد هجر ملوك المسلمين قصر الشمع واستقروا فى القاهرة وبعد رحيلهم سقط القصر أطلالاً وحالياً فقد قصر الشمع رونقه ، ولا يذكر شئ ببهائه ، وتذكرك آثار سوره المهدم بمرور شعوب عظيمة وبذكرى هؤلاء المسيحيين والعبيد التعساء الذين كانوا يرتعدون خوفاً من ضياع ثرواتهم وحياتهم واتخذوا جدران هذا القصر الذى شيده الرومان ملجأ لهم ، ولم يبق من هذا القصر إلا ذكرى فى أذهان البشر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : موسوعة وصف مصر طبعة دار الكتب الجزء 24