نذر عبد المطلب

2 ـ حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال: نا يونس بن بكير عن ابن إسحق قال: وكان عبد المطلب بن هاشم فيما يذكرون، قد نذر حين لقي من قريش - عند حفر زمزم - ما لقي : لئن ولد له عشرة نفر، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرن أحدهم لله عز وجل عند الكعبة، فلما توافى بنوه عشرة: الحارث، والزبير، وحجل، وضرار، والمقوم، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، وأبو طالب، وعبد الله، وعرف أنهم  سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره الذي نذر ، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوا له، وقالوا له: كيف تصنع؟ فقال: يأخذ كل رجل منكم قدحاً، فيكتب فيه اسمه، ثم تأتوني، ففعلوا، ثم أتوه، فدخل كل رجل منكم قدحاً، فيكتب فيه اسمه، ثم تأتوني، ففعلوا، ثم أتوه .

 فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة، وكان هبل عظيم أصنام قريش بمطة، وكان على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر التي يجمع فيها ما يهدي للكعبة ، وكان عند هبل سبعة أقداح، في لك قدح منها كتاب، قدح فيه العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، فعلى من خرج حمله، وفيها قدح الغفل، وقدح فيه نعم للأمر إذا أرادوه ضرب به في القداح، فإن خرج قدح نعم، عملوا به، وقدح فيه لا، فإذا أرادوا أمراً ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح، لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه منكم وقدح فيه من غيركم وقدح فيه ملصق وقدح فيه المياه فإذا ارادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح، وفيها ذلك، فحيثما خرج عملوا به، وكانوا إذا ارادوا أن يختنوا إلاماً، أو ينكحوا منكحاً، أو يدفنوا ميتاً، أو شكوا في نسب أحد منهم، ذهبوا به إلى هبل، وذهبوا معهم بجزور ومائة درهم إلى صاحبه صاحب القداح التي يضربها ، فأعطوها إياه، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، وقالوا: اضرب، اللهم أخرج على يديه اليوم الحق، ثم استقبلوا هبل، فقالوا: يا إلهنا، هذا فلان بن فلان كما زعم أهله، يريدن كذا وكذا، فإن كان كذلك فأخرج فيه الغفل، أو نعم أو منكم واقبل هديته فإن خرج من هؤلاء الثلاثة كتب في قومه وسيطاً، وإن خرج عليه من غيركم كان حليفاً، وإن خرج عليه ملصق كانت مترلته فيهم لا نسب ولا حلف، وإن خرج فيه شيء مما سوى هذا مما يعملون به نعم عملوا به، وإن خرج لا أخروه عامه ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون من أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح.

فقال عبد المطلب: اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذرن، وأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه، وكان عبد الله بن عبد المطلب، أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم أصغر بني أبيه، كان هو والزبير وأبو طالب لفاطمة بنت عمرو بن عائد بن عبد الله بن عمران بن مخزوم، وكان – فيما يزعمون - أحب ولد عبد المطلب إليه، وكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى، فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضربها، قام عبد المطلب عند هبل يدعو ويقول:

اللهم لا يخرج عليه القدح إني أخاف أن يكون قدح

إن كان صاحبي للذبح إني اراه اليوم خير قدح

حتى يكون صاحبي للمنح يغني عني اليوم كل سرح

فخرج القدح على عبد الله، فاخذ عبد المطلب بيده، وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة، الوثنين اللذين تنحر عندهما قريش ذبائحها، ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب؟ فقال: أذبحه، وأنشأ يقول:

عاهدت ربي وأنا موف عهده أيام أحفر وبني وحده

والله لا أحمد شيئاً حمده كيف أعاديه وأنا عبده

إني أخاف إن أخرت وعده أن أضل إن تركت عهده

ما كنت أخشى أن يكون وحده مثل الذي لاقيت يوماً عنده

أوجع قلبي عند حفري رده والله ربي لا أعيش بعده

حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: ذكروا أن العباس بن عبد المطلب اجتره من تحت رجل أبيه حتى خدش وجه عبد الله خدشاً، لم يزل في وجهه حتى مات.

قال ابن إسحق: فقالت قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبداً ونحن أحياء حتى نعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال رجل يأتي بابنه تحتى يذبحه، فما بقاء الناس على ذلك.

قال ابن إسحق: وقال المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم - وكان عبد الله بن عبد المطلب بن أخت القوم - : والله لا تذبحه أبداً حتى نعذر فيه، فإن كان فداء، فديناه بأموالنا، وقال فيما يزعمون في ذلك شعراً حين أجمع عبد المطلب في ذبح عبد الله بم أجمع:

واعجبني من قتل عبد المطلب وذبحه خرقاً كتمثال الذهب

 يا شيب لا تعجل علينا بالعجب فما ابننا بشرط القوم النجب

ولا ابنكم بالمستذل المغتصب نفاديه بالمال حتى نحترب

فسوف أفديه بمالي والسلب وسوف ألقى دونه من الغضب

أشوس آباء قبيحات الحطب ما ذبح عبد الله فينا باللعب

ذبحاً كما معتور النصب كلا ورب البيت مستور الحجب

لا يعجل المذبوح حتى نضطرب ضرباً يزيل الهام من بعد الغضب

بكل مصقول رقيق ذي شطب كالبرق أو كالنار في الثوب العطب

قال أبو عمر: ويقال: القطب والعطب، القطن.

قال ابن إسحق: وقد قال أبو طالب حين أراد عبد المطلب ذبح عبد الله - وكان ابن أمه - وحين قال المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ما قال:

كلا ورب البيت ذي الأنصاب ورب ما أضى من الركاب

كل قريب الدار أو منتاب يزور بيت الله ذا الحجاب

ما قتل عبد الله باللعاب من بين وهط عصبة شباب

ابن نساء سطة الأنساب أغر بين البيض من كلاب

وبين مخزوم ذوي الأحساب أهل الجياد القب والقباب

لستم على ذلك بالأذناب حتى تذوقوا حمس الضراب

بكل عضب ذائب اللعاب ذي رونق في الكف كالشهاب

تلقاه في الأقران ذا أنداب إن لم يعجل أجل الكتاب

قلت وما قولي بالمعاب يا شيب إن الجور ذو عقاب

إن لنا إن جرت في الخطاب أخوال صدق كأسود الغاب

لن يسلموه الدهر للعذاب حتى يمص القاع ذو التراب

دماء قوم حرم الأسلاب

فقال عبد المطلب عند ذلك:

الله ربي وأنا موف نذره أخاف ربي إن عصيت أمره

 والله لا يقدر شيء قدره فهو وليي وإليه عمره

هذا بني قد أردت نحره فإن تؤخره وتقبل عذره

وتصرف الموت له وحذره وتصرف الموت فلا يضره

من جهد إنسان ولا تعره سواك ربي ويكن قره

لكل عين ناظر تسره أعطيته رب فلا تعره

لحزن يوعني مسره

فقالت له قريش وبنوه لا تفعل وانطلق إلى الحجاز فإن به عرافة يقال لها نجاح، لها تابع فسلها، ثم أنت على رأس أمرك، فإن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بغير ذاك مما لك وله فيه فرج قبلته، فقال: نعم. فانطلقوا حتى قدموا المدينة، فوجدوها فيما يزعمون بخيبر، فركبوا تحتى جاءوها، فسألوها، وقص عليها عبد المطلب شأنه وشأن ابنه وما كان نذر فيه، فقالت لهم: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي، فأسأله، فخرجوا من عندها، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول:

يا رب لا تحقق حذري واصرف عنه شر هذا القدر

فإني أرجو لما قد أذر لأن يكون سيداً للبشر

ثم غدوا إليها، فقالت: نعم، قد جاءني الخبر، فكم الدية فيكم؟ فقالوا: عشرة من الإبل، وكانت كذلك، فقالت: فارجعوا إلى بلادكم، فقدموا صاحبكم، وقدموا عشراً من الإبل، ثم اضربوا عليها بالقداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم عز وجل، فإذا خرجت القداح على الإبل، فقد رضي ربكم، فانحروها عنه، ونجي صاحبكم. فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا لذلك الأمر، قام عبد المطلب يدعو الله عز وجل، ويقول:

اللهم إنك فاعل لما ترد إن شئت ألهمت الصواب والرشد

إني مواليك على رغم معد وساقي حجيجك الأبد

أورثني سقياهم أبي وجد فإن وجدي فاعلمن وجد وجد

أنت الذي تعلم كل صمد فلا تحقق حذري بولد

واجعل فداه في الجلاه الجعد

حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: فلما قربوا عبد الله وعشراً من الإبل، وعبد المطلب في جوف الكعبة يدعو ويقول:

اللهم رب العشر بعد العشر ورب من يأتي بكل نذر

أنج عبد الله عند النحر ونجه من شفعها والوتر

ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً فبلغت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

يا رب عشرين ورب الشفع أنج عبد الله رب النفع

من ضربة القدح التي في الجذع وأعطه الرفع الذي في الرفع

ولا يكون ضربه كاللذع كلذعة النار التي في السفع

ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً، فبلغت الإبل ثلاثين، وقام عبد المطلب يدعو الله ويقول:

رب الثلاثين ولي النعم أمنن علينا أن نصاب بالدم

هذا الإلام جنة لم يعلم فطار قلبي فهو مثل المغرم

لذكر عبد الله حتى يسلم وتنحر الذود التي لم تقسم

ونجه من ضربة لم تكلم

ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً، فبلغت الإبل أربعين، فقام عبد المطلب يدعو الله ويقول:

اللهم رب الأربعين إذ بلغت أنج بني من قداح كتبت

وانحر الذود التي هملت وجللت في قتله وذيخت

بلغ رضاك ربنا إذ جعلت عدلي بني عبد مناف وقعت

ثم ضربوا فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً، فبلغت الإبل خمسين، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول:

يا رب خمسين سمان بدن من كل كوماء له لم تعطن

إلا لرب ماجد ممكن أنج عبد الله رب الأركن

وانحر الذود التي لم تسكن

ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزدادوا عشراً فبلغت الإبل الستين. وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

اللهم رب الستين ورب المشعر ورب من حج له وكبر

يسعى لرب قادر ليغفر أنج عبد الله عند المنحر

وعافه من ضربة لا تجبر لتبلغ العظم بها فيكسر

ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً، فبلغ الإبل سبعين، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

يا رب سبعين له قد جمعت فاذبح الذود التي قد عطلت

وحسبت في قتله وخسيت وأخرج السهم لها إذ بذلت

حتى تكون دية قد كملت عن كل مقتول له إذ قبلت

ثم ضربوا، فخرج اسهم على عبد الله، فزدادوا عشراً، فبلغت الإبل ثمانين وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

يا رب الثمانين ورب الإهلال ورب يأتيك للاجلال

اجعل فداء ولدي ذود أبال سوف ترى شكري عند الإحلال

كشكر من يسعى بغير أنعال أمنن به علي رب الافضال

ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزدادوا عشراً، فبلغت الإبل تسعين، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

يا رب تسعين ورب المشرع ورب من يدفع عند المدفع

حتى يجيزوا معشراً للمجمع أنج لي عبد الله عند الأذرع

ونجه من ضربة لا ترجع

ثم ضربوا، فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً، فبلغت الإبل مائة، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

اللهم رب مائة لم تقسم ورب من يهوى بكل معلم

ورب من أهدى لكل محرم قد بلغت مائة لم تقسم

أرغم أعدائي بها ليرغموا

ثم ضربوا، فخرج السهم على الإبل، فقالت قريش ومن حضرة: قد رضي ربك، وخلص لك ابنك.

حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: فذكروا أن عبد المطلب قال: لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات، فضربوا على الإبل وعلى عبد الله، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

اللهم أنت هديتي لزمزم إن بني أحب من تكلم

فلا ترينه الغداة في الدم فإن حزني يدخل في الأعظم

فاجعل فداه مائة لم تقسم حتى نفاديه بكل أعجم

أمتن علي ذا الجلال المنعم وأرقع الموت لذوذ عتم

وثم رب فاجعلن ما تم ثم اصرف الموت إليها يسلم

بحولك اللهم عيش خرم وأنت إن سلمته لم يكلم

فبلغ العيش به فيهزم حتى أراه عند كل مقدم

يبين الخير لمن توسم

ثم ضربوا، فخرج السهم على الإبل، ثم أعادوا الثانية، وعبد المطلب مكانه عند هبل، فلما أرادوا أن يضربوا، قال:

يا رب لا تشمت بي الأعادي إن بني ثمرة فؤادي

فلا تسيل دمه في الوادي واجعل فداه اليوم من تلادي

ذود لقاح بدنا أندادي حتى تكون فدية الأولاد

ولا ترثنيه الأذواد إن بني رب لم يفادي

لكن يمين قسم الجواد فقد تراني رب لم أضادي

ثم ضربوا، فخرج السهم على الإبل، ثم أعادوا الثانية، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

يا رب قد أعطيتني سؤالي أكثرت بعد قلة عيالي

فاجعل فداه اليوم جل مالي معقلات تسحب الاجلال

ولا ترينه بشر حال فإنه يدخلني سلالي

بأن يكون النحر للهلال أو تصرف الموت فلا أبالي

عن ابني الأصغر ذا الجلال أنت الولي المعم المفضال

فأنعم اليوم لذاك بالي فإنه قد نزل الموالي

كلهم يبكي من السؤال كل فتى أبيض كالهلال

وقالت آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم:

يا رب بارك في الإلام الأزهر في الهاشمي والكريم العنصر

ثم ضربوا بالقداح على الإبل، فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها أحد.

Read 4444 times