النقود فى صدر الإسلام والدولة الأموية

Rate this item
(0 votes)

يروى شيخ المؤرخين المصريين " أحمد بن علي المقريزي " المعروف باسم " تقي الدين المقريزي "  الذى ولد وتوفي في القاهرة(764 هـ ـ 845 هـ) (1364م - 1442م) وممن اهتموا بالتأريخ بكل نواحيه ، فى مخطوطته (  شذور العقود فى ذكر النقود ) والتى أرخ فيها طبقاً لمصادر عصره حركة النقد والتعامل المادى فى صدر الإسلام وحتى نهاية عصر المؤيد شيخ السلطان المملوكى ، نختص منها ما ذكره حتى نهاية عصر الدولة الأموية على يد مروان بن محمد الجعدى آخر خلايف بنى أميه على حد تعبيره .

 يذكر المقريزى عن أبو بكر بن شيبة فى مصنفه عن كعب  أن أول من ( ضرب )  الدينار والدرهم ، عليه السلام  ، وأنه قال ( لا تصلح المعيشة إلا بهما ) ، وأن النقود التى كانت للناس على وجه الدهر نوعين : السوداء الوافية ، والطبرية العتق ، وهما غالب ما كان البشر يتعاملون به  .

فالوافية وهى البغلية ، هى دراهم فارس  ، الدرهم وزنه زنة المثقال الذهب ، والدراهم الجوارقية تنقص فى العشرة ثلاثة ، فكل سبعة بالبغلية عشرة بالجوارقية ، وكان لهم أيضاً دراهم تسمى جوارقيه ( كانت نقود العرب فى الجاهلية ) التى تدور بينها الذهب والفضة لا غير ترد اليها من الممالك دنانير الذهب قيصرية من قبل الروم ، ودراهم فضة على نوعين ( سودا وافية ، وطبرية عتقا ) وكان وزن الدراهم والدنانير فى الجاهلية مثل وزنها فى الإسلام مرتين ، ويسمى المثقال درهما ، والمثقال دينار أو لم يكن شئ من ذلك ، يتعامل به أهل مكة فى الجاهلية ، وإنما كانت تتعامل بالمثاقيل ، وزن الدراهم ، وزن الدنانير ، وكانوا يتبايعون بأوزان اصطلحوا عليها فيما بينهم وهو الرطل الذى هو اثنتى عشر أوقية ، والأوقية ( أربعون درهما ) فيكون الرطل ثمانين وأربعماية درهم ،  والنص هو نصف الأوقية حولت صاده شيناً فقيل نش ، وهو عشرون درهماً ، والدرهم الطيرى ثمانية درانيق ، والدرهم البغلى أربعة دوانق ، والدونق ثمان حبات وخمساً حبه من حبات الشعير المتوسطة التى لم تقشر ، وقد قطع من طرفيها ما امتد ، وكان الدينار يسمى لوزنه ديناراً ، وإنما هو تبر ( ذهب ) .

ويسمى الدرهم لوزنه درهماً ، وإنما هو تبر ، وكانت زنة كل عشرة دراهم ستة مثاقيل ، والمثقال زنة اثنى وعشرين قيراطاً إلا حبة ، وهو أيضاً بزنة ثنتى وسبعين حبة شعير .

مما تقدم ذكره وقيل أن المثقال منذ وضع لم يختلف فى جاهلية ولا إسلام ، ويقال أن الذى اخترع الوزن فى الدهر الأول بدأ بوضع المثقال أولا فجعله ستين حبة ، زنة الحبة مائة من حب الخردل البرى المعتدل ، ثم ضرب صنجة بزنة المائة الحبة الخردل وجعل بوزنها مع المائة الحبة صنجة ثانية ثم صنجة ثالثة حتى بلغ مجموع الصنج خمس حبات ، فكانت صنجة نصف سدس مثقال ، ثم أضعف وزنها حتى صارت صنجة ثلث مثقال ، فركب منها نصف مثقال ثم مثقالا وخمسة وعشرة وفوق ذلك ، فعلى هذا يكون زنة المثقال الواحد ستة آلاف حبة .

ولما بعث الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، أقر أهل مكة على ذلك كله ، وقال الميزان ميزان أهل مكة ، وفى رواية ميزان المدينة ، وقد ذكرت طرق هذا الحديث والكلام عليه فى مجاميعى ، وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الأموال على ذلك ، فجعل فى كل خمس أواقى من الفضة الخالصة التى لم تغش ، خمسة دراهم ، وهى النواة ، وفرض فى كل عشرين ديناراً نصف دينار كما هو معروف فى مظنته من كتب الحديث .

فصل فى ذكر النقود الإسلامية .

قد تقدم ما فرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نقود الجاهلية من الزكاة ، وأنه أقر النقود فى الإسلام على ماكانت عليه ، فلما استخلف أبو بكر الصديق رضى الله عنه عمل فى ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يغير منه شيئاً ، حتى إذا استخلف أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب رضى الله عنه وفتح الله على يديه مصر والشام والعراق ، لم يعترض لشئ من النقود بل أقرها على حالها ، فلما كانت سنة ثمان عشرة من الهجرة ، وهى السنة الثامنة من خلافته ، أتته الوفود منهم وفد البصرة وفيهم الأحنف بن قيس ، فكلم عمر بن الخطاب فى مصالح أهل البصرة ، فبعث معقل بن يسار فاحتفر نهر معقل الذى قيل فيه اذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ، ووضع الجريبة والدرهمين فى الشهر .

وقد ضربت الدراهم فى عهد عمر رضى الله عنه على نقش الكسروية وشكلها بأعيانها ، غير أنه زاد فى بعضها الحمد لله وفى بعضها محمد رسول الله ، وفى بعضها لا إله إلا الله وحده ، وعلى آخر عمر وزن كل عشرة دراهم ستة مثاقيل .

أما على وقت أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه ، فقد ضرب فى خلافته دراهم ونقشها الله أكبر ، فلما اجتمع الأمير معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنهما وجمع لزياد بن أبيه الكوفة والبصرة ، قال يا أمير المؤمنين ان العبد الصالح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه صغر الدرهم وكبر القفيز ، وصارت تؤخذ عليه ضريبة أرزاق الجند ، وترزق عليه الدرية طلباً للإحسان الى الرعية ، فلو جعلت أنت عياراً دون ذلك العيار ، ازدادت الرعية به مرفقاً ومضت لك به السنة الصالحة  ، فضرب معاوية رضى الله عنه عند ذلك السود الناقصة من ستة دوانيق ، فتكون خمسة عشر قيراطا تنقص حبة أو حبتين ، فضرب منها زياد وجعل وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ، وكتب عليها ، فكانت تجرى مجرى الدراهم ، وضرب معاوية أيضاً دنانير عليها تمثال متقلداً سيفاً ، فوقع منها دينار ردى فى يد شيخ من الجند فجابه معاوية ورماه به ، وقال يا معاوية إنا وجدنا ضربك شر ضرب ، فقال له معاوية لأحرمنك عطاك ، ولأكسونك القطيفة .

فلما قام أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضى الله عنه بمكة ضرب دراهم بدوره ( وذلك أثناء تمرده على حكم الأمويين ) ، وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة ، وإنما كانت قبل ذلك ما ضرب منها فإنه ممسوح غليظ قصير ، فدورها عبد الله ونقش بإحدى الوجهين محمد رسول الله ، وبالآخر أمر الله بالوفاء والعدل ، وضرب أخوه مصعب بن الزبير دراهم بالعراق ، وجعل كل عشرة سبعة مثاقيل ، وأعطاها للناس فى العطا حتى قدم الحجاج بن يوسف العراق من قبل أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ، فقال لا نبقى من سنة الفاسق أو قال المنافق شيئاً فغيرها .

ثم لما استوثق الأمر لعبد الملك بن مروان بعد مقتل عبد الله ومصعب ابنى الزبير ، فحض على النقود والأوزان والمكاييل ، وضرب الدنانير اثنين وعشرين قيراطاً إلا حبة بالشامى ، وجعل وزن الدرهم خمسة عشر قيراطاً سوا والقيراط أربع حبات ، وكل دانق قيراطين ونصف ، وكتب الى الحجاج وهو بالعراق ان اضربها قبلك ، فضربها ، وقدمت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها بقايا من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين سوى نقشها فإن فيه صهرة ، وكان سعيد بن المسيب رحمه الله يبيع بها ويشترى ولا يعيب من أمرها شيئاً ، وجعل عبد الملك الذهب الذى ضربه دنانير على المثقال الشامى ، وهى المثالة الوازنة بزيادة المائة دينارين ، وكان سبب ضرب عبد الملك الدنانير والدراهم كذلك أن خالد بن يزيد بن مسعود بن أبى سفيان قال له يا أمير المؤمنين إن العلماء من أهل الكتاب الأول يذكرون أنهم يجدون فى كتبهم أن أطول الخلفاء عمرا من قدس الله تعالى فى الدرهم ، فعزم على ذلك ووضع السكة الإسلامية .

وقيل أن عبد الملك كتب فى صدر كتابه الى ملك الروم ( قل هو الله أحد ) وذكر النبى صلى الله عليه وسلم فى ذكر التاريخ ، فأنكر ملك الروم ذلك وقال ان لم تتركوا هذا ، وإلا ذكرنا نبيكم فى دنانيرنا بما تكرهون ، فعظم ذلك على عبد الملك واستشار الناس فأشار عليه يزيد بن خالد بضرب السكة وترك دنانيرهم ففعل .

وكان الذى ضرب الدراهم رجل من يهود دنيماه يقال له سمير فنسبت الدراهم اذ ذاك اليه ، وقيل لها الدراهم السمريه ، وبعث عبد الملك بالسكة الى الحجاج فسيرها الحجاج الى الأفاق ليضرب الدراهم بها ، وتقدم الى الأمصار كلها أن يكتب اليه منها فى كل شهر بما يجتمع قبلهم من المال كى يحصيه عندهم وأن يضرب الدراهم فى الأفاق على السكة الإسلامية ، وتحمل اليه أولا فأولاً ، وقدر فى كل مائة درهم درهماً عن ثمن الحطب وأجر الضراب ، ونقش على أحد وجهى الدرهم قل هو الله أحد ، وعلى الآخر لا إله إلا الله ، وطوق الدرهم من وجهيه بطوق ، وكتب فى الطوق الواحد ( ضرب هذا الدرهم بمدينة كذا ، وفى الطوق الآخر محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) .

وقيل الذى نقش فيها قل هو الله أحد ، أحد الحجاج ، وكان الذى دعى عبد الملك الى ذلك أنه نظر للأمة وقال هذه الدراهم السود الوافيه والدراهم الطبرية العُتق تبقى مع الدهر .

وقد جاء فى الزكاة أن فى كل مائتين وفى كل خمسة أواق خمسة دراهم ، واتفق أن جعلها كلها على مثال السود العظام مائتين عدداً يكن قد نقص من الزكاة ، وإن عملها كلها على مثال الطبرية ، ويحمل المعنى على أنها اذا بلغت مائتين عدداً وجبت الزكاة فيها ، فإن فيه حيف وشطط على أرباب الأموال ، فاتخذ منزلة بين منزلتين يجمع فيها الزكاة من غير بخس ولا إضرار بالناس ، مع موافقة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك .

وكان الناس قبل عبد الملك يؤدون زكاة أموالهم شطرين من الكبار والصغار ، فلما اجتمعوا مع عبد الملك على ما عزم عليه ، عمد الى درهم وافٍ فوزنه ، فإذا هو ثمانية دوانيق ، وإلى الدرهم من الصغار فإذا هو أربعة دوانيق ، فجمعهما وكمل زيادة الأكبر على نقص الأصغر وجعلهما درهمين متساويين ، زنة كل منهما ستة دوانيق سواء ، واعتبر المثقال أيضاً ، فإذا هو لم يبرح فى آباد الدهور موفياً محدوداً كل عشرة دراهم منها ستة دوانيق ، فإنها سبعة مثاقيل سواء ، فأقر ذلك وأمضاه من غير إذن يعرض لتغييره .

فكان فيما صنع عبد الملك فى الدراهم ثلاث فضائل ، لما فى الأولى أن كل سبعة مثاقيل زنة عشرة دراهم ، والثانية أنه عدل بين صغارها وكبارها حتى اعتدلت وصار الدرهم ستة دوانيق ، والثالث أنه موافق لما سنه رسول الله ( ص ) فى فريضة الزكاة بغير وكس ولا اشتطاط ، فمضت بذلك السنة واجتمعت عليها الأمة ، وضبط هذا الدرهم الشرعى المجمع عليه أنه كما مر زنة العشرة منه سبعة مثاقيل ، وزنة الدرهم الواحد خمسون حبة من السعر الذى تقدم ذكره آنفاً .

ومن هذا الدرهم تركب الرطل والقدح والصاع وما فوقه ، ولنسمع من ذلك بطرف مما ذكرته فى كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار ، عند ذكر العيار منه ، فأقول : إنما جعلت العشرة من الدراهم الفضة بوزن سبعة مثاقيل من الذهب ، لإن الذهب أوزن من الفضة ، وأثقل وزناً ، فأخذت حبة فضة وحبة ذهب ووزنتا فرجحت حبة الذهب على حبة الفضة ثلاثة أسباع ، فجعل من أجل ذلك كل عشرة دراهم زنة سبعة مثاقيل ، فإن ثلاثة الأسباع الدرهم إذا أضيفت عليه بلغت مثقالاً ، والمثقال إذا نقص منه ثلاثة أعشار بقى درهم ، وكل عشرة مثاقيل تزن أربعة عشر درهماً ، وسُبعا درهم ، فلما ركب الرطل ، جعل الدرهم من ستين حبة ، لكن كل عشرة دراهم تعدل زنة سبعة مثاقيل ، فتكون زنة الحبة سبعين حب من حب الخردل ، ومن ذلك تركب الدرهم ، ومن الدرهم تركب الرطل ، ومن الرطل تركب المد ، ومن المد تركب الصاع وما فوقه ، وفى ذلك طرق حسابية مبرهنة بأشكال هندسية ليس هذا موضع إيرادها .

وكان مما ضرب للحجاج الدراهم البيض ونقش عليها قل هو الله أحد ، فقال القراء قاتل الله الحجاج أى شئ صنع للناس الآن يأخذه الجنب والحائض ، وكانت الدراهم قبل ذلك منقوشة بالفارسية ، فكره ناس من القراء مسها وهم على غير طهارة ، وقيل لها المكروهه ، فعرفت بذلك . ووقع فى المدون أن مالكاً رحمه الله سئل عن تغيير كتابة الدنانير والدراهم لما فيها من كتاب الله عز وجل فقال ( أول ما ضربت على عهد عبد الملك بن مروان ، والناس متوافرين ، فما أنكر أحد ذلك ، وما رأيت أهل العلم أنكروه ، ولقد بلغنى أن بن سيرين كان يكره أن يبيع بها أو يشترى ، وما ذاك من أمر الناس ، ولم أر أحداً منع ذلك ههنا ، يعنى رحمه الله أهل المدينة النبوية .

وقيل لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله :  هذه الدراهم البيض فيها كتاب الله تعالى ، يقبلها اليهودى والنصرانى والجنب والحائض ، فإن رأيت أن تأمر بمحوها ، فقال أردت أن تحتج علينا الأمم أن غيرنا توحيد ربنا واسم نبينا محمد ( ص ) ، ومات عبد الملك والأمر على ما تقدم ، فلم يزل من بعده فى خلافة الوليد ثم سليمان بن عبد الملك ، ثم عمر بن عبد العزيز ، الى أن استخلف يزيد بن عبد الملك فضرب ( الهبيرية ) بالعراق عمر بن هبيره على عيار ستة دوانيق ، فلما قام هشام ابن عبد الملك وكان جموعاً للمال ، أمر خالد بن عبد الله القسرى فى سنة ست ومائة من الهجرة أن يعيد العيار الى وزن سبعة ، وأن يبطل السك من كل بلد إلا واسط ، فضرب الدراهم بواسط  فقط ، وكبر السكة فضربت الدراهم على السكة الخالدية حتى عزل خالد فى سنة عشرين ومائة ، وتولى من بعده يوسف بن عمر الثقفى ، فصغر السكة وأجراها على وزن سبعة ، وضربها بواسط وحدها حتى قتل الوليد بن يزيد فى سنة ست وعشرين ومائة .

فلما استخلف مروان بن محمد الجعدى آخر خلايف بنى أمية ضرب الدراهم بالجزيرة على السكة بحران ، إلى أن قتل وأتت دولة بنى العباس .

Read 2082 times