سعيد بن يزيد بن علقمة

سعيد بن يزيد بن علقمة بن يزيد بن عوف الأزدى ، أمير مصر من أهل فلسطين ، وُليَ إمرة مصر بعد موت مسلمة بن مخلد من قِبل يزيد بن معاوية بن أبى سفيان ، ودخلها فى مستهل شهر رمضان من سنة اثنتين وستين من الهجرة ، وتلقاه أهل مصر ووجوه الناس وفيهم عمرو بن قَحزَم الخولانى ، فلما رآه قال : يغفر الله لأمير المؤمنين ، أما كان فينا مائة شاب كلهم مثلك يولى علينا أحدهم ! ثم دخلوا معه .

 ولم يزل أهل مصر على الشنآن له والإعراض عنه والتكبر عليه حتى توفى يزيد ابن معاوية ، ودعا عبد الله بن الزبير الناس لبيعته وقامت أهل مصر بدعوته وسار منهم جماعة كثيرة إليه ، فبعث عبد الله بن الزبير عبد الرحمن بن جَحدَم أميراً على مصر ، واعتزل سعيد ، فكانت ولايته سنتين إلا شهراً واحداً .

وقال صاحب كتاب ( البُغية والإغتباط فيمن ملك الفُسطاط ) : ولاه يزيد بن معاوية على صلاة مصر ، فقدمها فى إستهلال شهر رمضان سنة 62 من الهجرة ، فأقر عابساً بن سعيد بن سعيد المرادى الغطيفى ( توفى سنة 68 هـ ) أقره على الشُرطة ، وتوفى وهو على الشرطة والقضاء معاً .

وفى مدة هاتين السنتين وقعت له حروب كثيرة شرقاً وغرباً ، فأما جهة الشرق ، فكانت الفتنة ثائرة بين ابن الزبير وبين بنى أُمية ، حتى قدم ابن جَحدَم الى مصر وملكها منه ودعا بها لابن الزُبير ، هذا مع الفتن التى كانت ببلاد المغرب من خروج كَسِيلة البربرى ، وتجرد بسببه غير مرة الى برقة وغيرها .

وأمرُ كَسيِلة البربرى أنه كان أسلم لما وُلّي أبو المهاجر أفريقية ، وحَسُن إسلامه ، فكان من أكابر البربر وصحب أبا المُهاجر ، وكان شيخاً لقبيلة ( أورَبَه ) من قبائل المغرب الأوسط ، واسمه الكامل ( كسيلة بن لمزم ) ، وأول ما سُمع عنه حوالى سنة 50 هـ ، عندما تقدم أبو المهاجر دينار نحو المغرب الأوسط فيما يلى بنزرت غرباً ، وكانت مضارب أَورَبَه فى المنطقة المحيطة بتلمسان وجنوبها ، ويقال إن القبيلة كانت نصرانية ، وكذلك رئيسها ، ولكن ذلك غير ثابت ، فلما سمع كسيلة بقدوم أبى المهاجر سار نحوه ، ووقعت بينهما حرب لم يطل أمدها ، لأن أبا المهاجر عرف كيف يكسب كسيلة الى جانبه ، فدخل فى الإسلام ، وارتبط الرجلان برباط صداقة كانت خير معين على الإستمرار فى الفتح ، وظل الأمر كذلك الى أن عُزل أبو المهاجر وعاد عُقبة بن نافع ، فقبض على أبى المهاجر ( دينار مولى الأنصارى ) وأوثقه فى الحديد ، وكذلك فعل بكُسيلة سنة 61 هـ ، ثم قام بغزوته الكبيره التى بلغ فيها المحيط الأطلسى ، وقد تمكن كسيلة من الإتصال بقومه ودبر معهم الإيقاع بعقبة ، وهرب إليهم فى أثناء ذلك  ، فلما ولى عقبة بن نافع إفريقية ، عَرَّفه أبو المهاجر محل كسيلة وأمره بحفظه ، فلم يقبل واستخف به ، وأتى عُقبة بغنم فأمر كسيلة بذبحها وسلخها مع السلاخين ، فقال كسيلة : هؤلاء غلمانى يكفوننى المؤونة ، فشتمه عقبة وأمره بسلخها ففعل ، فنصح أبو المهاجر عقبة فلم يسمع ، فقال : وإن كان لابد فأوثقه فإنى أخاف عليك منه ، فتهاون به عُقبة ، فأضمر كسيلة الغدر ، فلما كان ورأى القوم قلة مع عُقبة توثب عليه ، وكان فى عسكر عُقبة جماعة وافقوا كسيلة ، ثم راسلته الروم فأظهر كسيلة منذ ذلك ما كان أضمر وجمع أهله وبنى عمّه وقصد عقبة ، فقال أبو المهاجر لعقبة : عاجله قبل أن يقوى جمعه ، وكان أبو المهاجر مُوثقاً فى الحديد مع عقبة ، فزحف عنه عقبة الى كسيلة ، فتنحى كسيلة عن طريقه ليكثر جمعه ويتعب عقبة ، فلما رأى أبو المهاجر ذلك تمثل بقول أبى مِحجن الثقفى :

كفى حَزَناً أن تُطعنَ الخيلُ بالقنا . . وأُترك مشدوداً علىّ وثاقيا

إذا قُمتُ عنانى الحديدُ وأُغلقت . . مصارعُ من دونى تُصِمُّ المُناديا

فبلغ عُقبة ذلك ، فأطلقه وقال له : الحَق بالمسلمين فقم بأمرهم وأنا أغتنم الشهادة ، فلم يفعل ذلك وقال : وأنا أيضاً أريد الشهادة ، فكسر عُقبة والمسلمون أجفان سيوفهم وتقدموا الى البربر وقاتلوهم حتى قُتل المسلمون جميعهم ولم يُفلت منهم أحد ، وأسر محمد بن أوس الأنصارى فى نفر يسير فخلصهم صاحب قَفصة وبعث بهم الى القيروان ، فعزم بن قيس الَبلَوى على القتال فلم يوافقه جيش الصنعانى وعاد الى مصر وتبعه أكثر الناس من العساكر المصرية من جُند سعيد صاحب مصر ، فاضطر زُهير الى العود معهم فسار الى برقة وأقام بها ، وبعث يستمد المصريين ، ووقع له أمور إلى أن ملك إفريقية فى سنة تسع وستين من الهجرة .

وأما كسيلة فاجتمع اليه جميع أهل إفريقية وقصد القيروان ، وبها أصحاب الأنفال والذرارى من المسلمين ، فطلبوا الأمان من كسيلة فآمنهم ، ودخل القيروان واستولى على إفريقية وأقام بها من غير مُدافع الى أن قَويَ أمر عبد الملك بن مروان وندب زهيراً ثانية وأمده بالعساكر حتى استولى على إفريقية ودعا بها لعبد الملك بن مروان ، وكان زهير بن قيس المذكور فى هذه المدة مُرابطاً ببرقة ومن وَليَ من أمراء مصر يعضّده إلى أن كان ما كان .

وكان كسيلة من أكبر المدبرين لمقتل عقبة فى تهودة سنة 63 هـ ، ثم سار كسيلة واحتل القيروان ، وظل كذلك حتى سار زهير بن قيس البلوى بحملة على إفريقية سنة 69 هـ ، فانسحب كسيلة الى مدينة ممش ، وهى حصن بيزنطى كان يسمى Mamma ، وعند هذه المدينة دارت المعركة الفاصلة بين العرب وكسيلة ، وقد إنهزم فيها وقُتل ، وتمهد الطريق لدخول المغرب الأوسط فى رحاب الدولة الإسلامية .

السنة الأولى من ولاية سعيد بن يزيد على مصر وهى سنة ثلاث وستين :

فيها غزا عقبة بن نافع القيروان وسار حتى دخل السوس «2» الأقصى وغنم وسلم ورد من القيروان، فلفيه كسيلة النصراني فدافعه عقبة بمن معه فاستشهد عقبة بن نافع المذكور في الوقعة وأبو المهاجر مولى الأنصار وعامة أصحابهما، ثم سار كسيلة فخرج لحربه زهير بن قيس البلوي خليفة عقبة على القيروان وواقعه، فانهزم زهير إلى برقة وأقام بها سنين إلى أن ندبه عبد الملك بن مروان لقتاله ثانياً، فتوجه إليه وواقعه، فقتل اللعين كسيلة وهزم جنوده وقتلت منهم مقتلة عظيمة، وقد مر ذلك كله في أول الترجمة مفصلاً. وفيها بعث سالم بن زياد بن أبيه طلحة بن عبد الله الخزاعي والياً على سجستان وأمره أن يفدي إخاه من الآسر ففداه بخمسمائة ألف وأقدمه على أخيه. وفيها كانت وقعة الحرة على باب طيبة، وهو أن يزيد بن معاوية بعث إليها جيشا عليهم مسلم بن عقبة حين خالفوا عليه وأمره بهتك حرمة المدينة،وكان مع مسلم اثنا عشر ألفاً، فوصل مسلم المذكور إلى المدينة وفعل فيها ما لا يفعله مسلم، فإنه قتل في هذه الوقعة خلقاً من المهاجرين والأنصار وانتهكت حرمة المدينة وآنتهبت وآفتضت فيها ألف عذراء، واستشهد فيها عبد الله بن حنظلة الغسيل «1» في ثمانية من بيته، وله صحبة ورواية، وقتل فيها أيضاً معقل بن سنان الأشجعي صبراً، وأستشهد أيضاً عبد الله بن زيد بن عاصم المازني النجاري، وله صحبة ورواية، وأستشهد فيها أيضاً أفلح مولى أبي أيوب، ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحمد بن ثابت بن قيس بن شماس حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريقه، ومعاذ بن الحارث الأنصاري أبو حليمة القاري الذي أقامه عمر يصلّى التراويح، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وله ست سنين، ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة، ومحمد بن أبي حذيفة العدوي؛ كل هؤلاء قتلوا يومئذ؛ وهذا مما اختصرته من مقالة الذهبي.
وقد ذكر هذه الواقعة أيضاً أبو المظفر، وساق فيها أموراً شنيعة إلى الغاية، وفيها ذكرناه كفاية يعرف منها حال مسلم بن عقبة المذكور. ويكفيك أنه من يومئذ سمي مسلم المذكور «مسرف بن عقبة» . وقيل: إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، يأتي ذكر ذلك في وفاته قريباً. انتهى أمر مسرف بن عقبة. وقال خليفة: جميع من أصيب من قريش والأنصار يوم الحرة ثلاثمائة وستة رجال، ثم سرد أسماءهم في ثلاث أوراق. وفيها توفي مسروق بن الأجدع، واسم الأجدع عبد الرحمن بن مالك بن أمية أبو عائشة الهمداني ثم الوداعي الكوفي مخضرم (أعني أنه ولد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم بعد ذلك) وسمع أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم.

 وممن قتل أيضاً في الحرة زيد بن عاصم وليس هو بصاحب الأذان، ذاك زيد بن ثعلبة، والزبير بن عبد الرحمن بن عوف. وحج بالناس عبد الله بن الزبير. وفيها توفي ربيعة بن كعب الأسلمي من أهل الصفة، روى له مسلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وأربعة أصابع.

 السنة الثانية من ولاية سعيد بن يزيد على مصر وهي سنة أربع وستين :

فيها حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان عامله على المدينة أخوه عبيدة «1» بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وولى قضاءها سعيد بن نمران، وأبى شريح أن يقضي في الفتنة، وعلى البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم. وفيها توفي مسلم بن عقبة المسمى مسرفاً المقدم ذكره في وقعة الحرة. قال محمد بن جرير الطبري: ولما فرغ مسلم من وقعة الحرة توجه إلى مكة، واستخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامىّ، فأدرك مسلماً الموت فعهد بالأمر إلى الحصين بن نمير.
وذكر الذهبي رحمه الله: أن مسلماً هذا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم. قلت:
ولهذا أمسكنا عن الكلام في أمره. وشهد مسلم صفين مع معاوية وكان على الرجالة.
وفيها توفي الخليفة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وقد تقدم نسبه في ترجمة أبيه معاوية، مات في نصف شهر ربيع الأوّل، وكان بويع بالخلافة بعد موت أبيه معاوية في شهر رجب سنة ستين، فكانت خلافته ثلاث سنين وسبعة أشهر وأياماً، وكان فاسقاً قليل الدين مدمن الخمر، وهو القائل:
أقول لصحبٍ ضمت الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنّم
خذوا بنصيبٍ من نعيم ولذةٍ ... فكل وإن طال المدى يتصرم
وله أشياء كثيرة غير ذلك غير أننى أضربت عنها لشهرة فسمه ومعرفة الناس بأحواله. وقد قيل: إن رجلاً قال في مجلس عمر بن عبد العزيز عن يزيد هذا أمير المؤمنين؛ فقال له عمر بن عبد العزيز: تقول: أمير المؤمنين! وأمر به فضرب عشرين سوطاً تعزيراً له. ولما مات يزيد هذا ولي الخلافة من بعده ابنه معاوية ابن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثالث خلفاء بنى أميّة، وكان رجلاً صالحاً فلم يرد الخلافة وخلع نفسه منها، ومات بعد قليل.
ذكر خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي ثالث خلفاء بني أمية ووفاته
كنيته أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو يزيد. بويع بالخلافة بعد موت أبيه يزيد بعهد منه إليه، وذلك في شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين، وكان مولده سنة ثلاث وأربعين فلم تطل مدته في الخلافة.
قال أبو حفص الفلاس «1» : ملك أربعين ليلة ثم خلع نفسه، فإنه كان رجلاً صالحاً؛ ولهذا يقال في حق أبيه: يزيد شر بين خيرين، يعنون بذلك بين أبيه معاوية بن أبي سفيان وابنه معاوية هذا. وقيل: إن معاوية هذا لما أراد خلع نفسه جمع الناس وقال: أيها الناس، ضعفت عن أمركم فاختاروا من أحببتم؛ فقالوا: ول أخاك خالداً؛ فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم فلا أتقلد وزرها، ثم صعد المنبر فقال: أيها الناس، إن جدي معاوية نازع الأمر أهله ومن هو أحق به منه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب، وركب بكم ما تعلمون حتى أتته منيته، فصار في قبره رهيناً بذنوبه وأسيراً بخطاياه؛ ثم قلد أبي الأمر فكان غير أهل لذلك، وركب هواه وأخلفه الأمل، وقصر عنه الأجل. وصار في قبره رهيناً بذنوبه، وأسيراً بجرمه؛ ثم بكى حتى جرت دموعه على خديه ثم قال: إن من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وبئس منقلبه، وقد قتل عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباح الحرم وخرب الكعبة، وما أنا بالمتقلّد ولا بالمتحمل تبعاتكم، فشأنكم أمركم؛ والله لئن كانت الدنيا خيراً فلقد نلنا منها حظاً ولئن كانت شراً فكفى ذرية أبي سفيان ما أصابوا منها، ألا فليصل بالناس حسان ابن مالك، وشاوروا في خلافتكم رحمكم الله. ثم دخل منزله وتغيب حتى مات في سنته بعد أيام.
وفيها توفي شداد بن أوس بن ثابت وهو ابن أخي حسان بن ثابت. وفيها توفّى المسور بن مخزمة بمكة في اليوم الذي ورد فيه خبر موت يزيد بن معاوية، وكان سبب موته أنه أصابه حجر منجنيق في جانب وجهه فمرض أياما ومات. وفيها وثب مروان ابن الحكم على الأمر وبويع له بالخلاقة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.

Read 2133 times