عبد الله بن عبد الملك بن مروان

هو عبد الله ابن الخليفة عبد الملك بن مران بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، القرشي الأموي الأمير أبو عمر. ولد في حدود سنة ستين ونشأ بدمشق تحت كنف والده عبد الملك؛ وندبه أبوه في خلافته إلى عدة غزوات، وافتتح المصيصة في سنة أربع وثمانين وقتل وسبى وغنم . 

 ثم ولاه أبوه إمرة مصر بعد موت عمه عبد العزيز بن مران في سنة خمس وثمانين، فتوجه إليها ودخلها في يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة من سنة خمس وثمانين، وقيل من سنة ست وثمانين.

 ودخل مصر ابن سبع وعشرين سنة؛ كان أبوه عبد الملك أمره أن يعفي آثار عبد العزيز؛ فأول ما دخل عبد الله المذكور استبدل العمال بعمال غيرهم والأصحاب بأصحاب أخر، واستعمل على شرطة مصر عبد الأعلى، ومنع من لبس البرانس ؛ وكان فيه شدة بأس. فلم يكن إلا أشهر وتوفي أبوه عبد الملك بن مران وولي الخلافة من بعده أخوه الوليد بن عبد الملك، فأقره الوليد على إمرة مصر على عادته؛ فأمر عبد الله المذكور أن تنسخ دواوين مصر بالعربية، وكانت تكتب بالقبطية، ففعل ذلك. ثم وقع في سنة سبع وثمانين الشراقي بمصر وغلت الأسعار بها إلى الغاية، حتى قيل: إن أهل مصر لم يروا في عمرهم مثل تلك الأيام. وقاست أهل مصر شدائد بسبب الغلاء، فاستشأمت الناس بكعبه. هذا مع ما كان عليه من الجور؛ فإنه كان يرتشي ويأخذ الأموال من الخراج وغيره. ولما شاع ذلك عنه طلبه أخوه الوليد من مصر، فخرج عبد الله من مصر إليه بدمشق في صفر سنة ثمان وثمانين، واستخلف على مصر عبد الرحمن بن عمرو بن مخزوم الخولاني. هذا وأهل مصر في شدة عظيمة من عظم الغلاء؛ فأقام عند الوليد مدة يسيرة ثم عاد إلى مصر حتى عزله أخوه الوليد بن عبد الملك عن إمرة مصر في سنة تسعين، وولى عوضه على مصر قرة بن شريك الآتي ذكره. فكانت ولاية عبد الله هذا على مصر ثلاث سنين وعشرة أشهر.
وبعد عزله توجه إلى دمشق عند أخيه الوليد. وخرج من مصر بجميع أمواله واستصحب معه الهدايا والتحف إلى أخيه الوليد. فلما وصل إلى الأردن أحيط به من قبل أخيه الوليد فأخذ جميع ما كان معه، وحمل عبد الله المذكور إلى أخيه الوليد. وعبد الله هذا أمه أم ولد لأن أكبر إخوته الوليد ثم سليمان ثم مران الأكبر - عرج - وعائشة؛ وأمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن خزيمة ؛ ثم يزيد ومروان الأصغر ومعاوية وأم كلثوم، وأمهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ؛ ثم هشام وأمه أم هشام بنت إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومية واسمها عائشة؛ ثم أبو بكر، وكان يعرف ببكار، وأمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله ؛ ثم الحكم وأمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان؛ ثم فاطمة وأمها أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة؛ ثم عبد الله هذا صاحب الترجمة، ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعيد الخير والحجاج لأمهات الأولاد.

السنة الأولى من ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مران على مصر وهي سنة ست وثمانين.

فيها كان طاعون القينات؛ سمي بذلك لأنه بدأ في النساء، وكان بالشام وواسط والبصرة.
وفيها سار قتيبة بن مسلم متوجها إلى ولايته فدخل خراسان وتلقاه دهاقين بلخ وساروا معه، وأتاه أيضاً أهل صاغان بهدايا ومفتاح من ذهب وسلموا له بلادهم با لأمان.
وفيها افتتح مسلمة بن عبد الملك حصن بولق وحصن الأخرم. وفيها توفي الخليفة عبد الملك بن مران بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، أمير المؤمنين أبو الوليد، القرشي الأموي، والد عبد الله هذا صاحب الترجمة. بويع بالخلافة بعهد من أبيه مروان بن الحكم، وكان ذلك بعد أن دعا عبد الله بن الزبير لنفسه بالخلافة. وتم أمر عبد الملك المذكور في الخلافة وبقي على مصر والشام، وابن الزبير على باقي البلاد، مدة سبع سنين والحروب ثائرة بينهم. ثم غلب عبد الملك على العراق وما والاها بعد قتل مصعب بن الزبير؛ ثم ولى الحجاج بن يوسف الثقفي العراق ومحاربة عبد الله بن الزبير حتى قتله ؛ واستوثق الأمر بقتل عبد الله بن الزبير لعبد الملك، ودام في الخلافة حتى توفي بدمشق في شوال. وخلافته المجمع عليها أعني بعد قتل عبد الله بن الزبير من وسط سنة ثلاث وسبعين.

وقال الشعبي: خطب عبد الملك فقال: اللهم إن ذنوبي عظام، وإنها صغار في جنب عفوك، فاغفرها لي يا كريم. وكان مولد عبد الملك سنة ست وعشرين من الهجرة ؛ وكان عابداً ناسكاً قبل الخلافة؛ فلما أتته الخلافة تغير عن ذلك كله وولى الحجاج على العراق. قيل: إن الحسن البصري سئل عن عبد الملك هذا فقال: ما أقول في رجلٍ الحجاج سيئة من سيئاته! وفيها هلك ملك الروم الأخرم بورى قبل عبد الملك بن مروان بشهر.
وفيها حج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي.
وفيها توفي بشر بن عقربة الجهني أبو اليمان. قال الواقدي: قتل أبوه عقربة يوم أحد، قال بشر: فلقيني رسول الله " ص " وأنا أبكي فقال: يا حبيب ما يبكيك فقلت: قتل أبي، قال: " ما ترضى أن أكون أباك وعائشة أمك " ومسح على رأسي بيده، فكان أثر يده من رأسي أسود وسائره أبيض.
وفيها توفي عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي، من الطبقة الثالثة من المهاجرين ؛وكان ممن بايع تحت الشجرة وشهد مع النبي " ص " غزوة بني النضير والخندق والقريظة.
وفيها توفي أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي، من الطبقة الرابعة من الصحابة.
وفيها حبس الحجاج يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان، وعزل عبد الملك عن شرطته؛ وكان الحجاج أمير العراق كله والشرق في هذه السنة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً.

السنة الثانية من ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان على مصر وهي سنة سبع وثمانين.

فيها افتتح قتيبة بن مسلم أمير خراسان بيكند وفيها شرع الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان في بناء جامع دمشق الأموي؛ وكان نصفه كنيسة النصارى، وعلى ذلك صالحهم أبو عبيدة بن الجراح؛ فقال لهم الوليد: إنا قد أخذنا كنيسة مريم عنوة فأنا أهدمها، فرضوا بهدم هذه الكنيسة وإبقاء كنيسة مريم؛ والمحراب الكبير هو مكان باب الكنيسة. ثم كتب الوليد إلى ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان وهو أمير المدينة ببناء مسجد النبي " ص " وكانت ولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة في أوائل هذه السنة أيضاً وله من العمر خمس وعشرون سنة بعد أن صرف عنها هشام بن إسماعيل المخزومي؛ ودام عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة إلى أن عزله الوليد أيضاً بأبي بكر بن عمرو بن حزم.
وفيها حج بالناس عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة؛ وكان على قضاء المدينة أبو بكر بن عمرو بن حزم.
وفيها توفي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد.
وفيها قدم نيزك طرخان على قتيبة بن مسلم فصالحه وأطلق ما في يده من أسارى المسلمين.
وفيها غزا قتيبة المذكور نواحي بخارا فكانت ملحمة عظيمة هزم الله فيها المشركين.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك فافتتح قمقم وبحيرة الفرسان، فقتل وسبى، ويسر الله تعالى في هذا العام بفتوحات كبار على الإسلام.
وفيها توفي قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة بن عمرو الخزاعي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة والثانية من أهل الشام؛ ولد على عهد رسول الله " ص " عام الفتح، وكان على خاتم الخليفة عبد الملك بن مروان وصاحب أمره وأقرب الناس إليه.
وفيها توفي مطرف بن عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب، أبو عبد الله الحرشي، من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة؛ وكان له فضل وورع ورواية، وكان بعيداً من الفتن.
وفيها توفي أبو الأبيض أعنسي، وهو من التابعين. كان كثر الغزو والجهاد.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وستة عشر إصبعاً. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً .

السنة الثالثة من ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان على مصر وهي سنة ثمان وثمانين :

فيها جمع الروم جمعاً عظيماً وأقبلوا فالتقاهم قتيبة بن مسلم ومعه العباس ابن الخليفة الوليد، فهزم الله الروم وقتل منهم خلق كثير، وافتتح المسلمون سوسنة وطوانة.
وفيها غزا قتيبة أيضاً الترك فزحفوا إليه ومعهم أهل فرغانة وعليهم ابن أخت ملك الصين، ويقال: بلغ جمعهم مائتي ألف، فكسرهم قتيبة، وكانت ملحمة عظيمة أيضاً.
وفيها توفي عبد الله بن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري الخزرجي، من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة.

وفيها كان فتح طوانة من أرض الروم على يد مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك.
وفيها حج بالناس أمير المدينة عمر بن عبد العزيز ووصل جماعةً من قريش، وساق معه بدناً وأحرم من ذي الحليفة - فلما كان بالتنعيم أخبر أن مكة قليلة الماء وأنهم يخافون على الحاج العطش، فقال عمر: تعالوا ندع الله تعالى، فدعا ودعا الناس معه، فما وصلوا إلى البيت إلا مع المطر. وسال الوادي فخاف أهل مكة من شدته، ومطرت عرفة ومكة وكثر الخصب.
وفيها كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره بإدخال حجر أزواج النبي " ص " في المسجد وأن يشترى ما بنواحيه، حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع وأن يقدم القبلة، ففعل عمر ذلك.
وفيها توفي عبد الله بن بسر المازني مازن بن منصور وكان ممن صلى إلى القبلتين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وواحد وعشرون إصبعاً. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.

السنة الرابعة من ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان على مصر وهي سنة تسع وثمانين.

فيها افتتح موسى بن نصير جزيرتي ميرقه ومنرقة، وهما جزيرتان في البحر بين جزيرة صقلية وجزيرة الأندلس؛ وتسمى هذه الغزوة غزوة الأشراف لكثرة الأشراف التي كانوا بها أعني أشراف العرب.
وفيها غزا قتيبة، وردان خذاه ملك بخارا فلم يطقهم ورجع.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك عمورية فلقي جمعاً من الروم فهزمهم الله.
وفيها ولي خالد بن عبد الله القسري مكة وهي أول ولايته.
وفيها غزا مسلمة أيضاً والعباس بن الوليد بن عبد الملك الروم، فافتتح مسلمة حصن سورية وافتتح العباس مدينة أذرولية.
وفيها حج بالناس عمر بن عبد العزيز.
وفيها توفي ظليم مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بإفريقية.
وفيها عزل عمران بن عبد الرحمن عن قضاء مصر بعبد الواحد بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج وله خمس وعشرون سنة.
وفيها توفي عمران بن حطان السدوسي الخارجي. كان شاعر الخوارج؛ وروى عن أبي موسى وعائشة رضي الله عنهما؛ وكان عمران فصيحاً قبيح الشكل، وكانت زوجته جميلة، فدخل عليها يوماً وهي بزينتها فأعجبته وعلمت منه ذلك، فقالت: أبشر فإني وإياك في الجنة ؛ قال: ومن أين علمت؟ قالت: لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وأنا ابتليت بمثلك فصبرت، والصابر والشاكر في الجنة. ومن شعره في عبد الرحمن بن ملجم وقومه: البسيط
يا ضربةً من تقي ما أراد ... بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
أكرم بقومٍ بطون الطيرأقبرهم ... لم يخلطوا دينهم بغياً وعدوانا
قلت: وهذا مذهب الخوارج، فإنهم يكفرون بالمعصية.
وفيها توفي يحيى بن يعمر أبو سليمان الليثي البصري. وكان عالماً بالقراءات والعربية. وهو أول من نقط المصاحف. وكان ولاه الحجاج من بره قضاء مرو، وكان يقضي بالشاهد واليمين.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعاً. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً واثنان وعشرون إصبعاً.

Read 2149 times