ولاية عمرو بن العاص الثانية

ولاية عمرو بن العاص الثانية من ( 38 ـ 42 هـ ) من قبل مُعاوية بن أبى سفُيان ، وكان دخوله الى مصر فى شهر ربيع الأول من سنة ثمان وثلاثين من الهجرة ، وجمع إليه مُعاوية الصلاة والخراج فى ولايته هذه .

وسبب إنتماء عمرو إلى مُعاوية أن عمراً كان لما عزله عُثمان بن عفان عن مصر بعبد الله بن سعد بن أبى سرح ، توجه عمرو وأقام بمكة منكفاً عن الناس حتى وقعت موقعة الجمل .

قال الحافظ أبو عبد الله الذهبى ، قال جُويرية بن أسماء ، حدثنى عبد الوهاب ابن يحيى بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا أشياخنا : أن الفتنة وقعت وما رجل من قريش له نباهة أعمى فيها من عمرو بن العاص ، وما زال مقيماً بمكة ليس فى شئ مما فيه الناس حتى كانت وقعة الجمل ، فلما فرغت بعث إلى ولديه عبد الله ومحمد فقال : إنى قدر رأيت رأياً ولستما باللذين تردانى عن رأيى ولكن أشيرا على ، إنى رأيت العرب صاروا عَنْزَين يضطربان ، وأنا طارح نفسى بين جزارَى مكة ولست أرضى بهذه المنزلة ، فإلى أى الفريقين أعمِد ؟ قال له ابنه عبد الله : إن كنت لا بُد فاعلاً فإلى عليّ ، قال : إنى إن أتيت علياً قال : إنما أنت رجل من المسلمين ، وإن أتيت مُعاوية يَخلِطنى بنفسه ويشركنى فى أمره ، فأتى مُعاوية .

وعن عُروة وغيره قال : دعا عمرو ابنيه ، فأشار عليه عبد الله أن يلزم بيته لأنه أسلم له ، فقال محمد : أنت شريف من أشراف العرب وناب من أنيابها ، لا أرى أن تتخلف ، فقال عمرو لإبنه عبد الله : أما أنت فأشرت على بما هو خير لى فى آخرتى ، وأما أنت يا محمد فأشرت علي بما هو أنبه للذكرى ، ارتحلا ، فارتحلوا الى الشام غُدوَة وعشية حتى أتوا الشام ، فقال : يا أهل الشام إنكم على خير وإلى خير ، تطلبون بدم عثمان ، خليفة قُتل مظلوماً ، فمن عاش منكم فإلى خير ، ومن مات فإلى خير .

ودخل مصر ووليها بعد محمد بن أبى بكر الصديق ومهد أمورها ، ثم خرج منها وافداً على مُعاوية بالشام واستخلف على مصر ولده عبد الله بن عمرو ـ وقيل خارجة بن حُذافة ـ وحضر أمر الحكمين ، ثم رجع الى مصر على ولايته ، ودام بها الى أن كانت قصة الخوارج الذين خرجوا لقتل عليّ ومعاوية وعمرو هذا ، فخرج عبد الرحمن بن مُلْجِم لقتل عليّ رضى الله عنه ، وقيس إلى مُعاوية ، ويزيد إلى عمرو بن العاص ، وسار الثلاثة كل واحد إلى جهة مَنْ هو متوجه لقتله ، وتواعد الجميع أن يثب كل واحد على صاحبه فى سابع عشر شهر رمضان ، فأما عبد الرحمن بن مُلجم فقد وثب على علي بن أبى طالب وقتله ، وأما قيس فوثب على معاوية وضربه فلم تؤثر فيه الضربة غير أنه جُرِح ، وأما يزيد فقد توجه إلى عمرو ، فعرضَت لعمرو علة تلك الليلة منعته من الصلاة فصلى خارجة بالناس ، فوثب عليه يزيد يظنه عمراً فقتله ، وأُخذ يزيد وأُدخل على عمرو فقال يزيد : أما والله ما أردت غيرك ، فقال عمرو : ولكن الله أراد خاجة ، فسار مثلاً : ( أردت ُ عمراً وأراد الله خاجة ) ، وأقام عمرو بعد ذلك مدة سنين حتى مات بها .

قيل : إنه لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى ، فقال له ابنه عبد الله : أتبكى جزعاً من الموت ؟ فقال : لا والله ولكن مما بعده ، وجعل ابنه يُذكره بصحبته رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوحه الشام ، فقال عمرو : تركتَ أفضل من ذلك : شهادة أن لا إله إلا الله ، إنى كنت على ثلاثة أطباق ليس منها طبقة إلا عرَفت نفسى فيها : كنت أول شئ كافراً وكنت أشدُ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو مِتّ حينئذ لوجبت لى النار ، فلما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أشدُ الناس منه حياء ما ملأت عينى منه ، فلو مت لقال الناس هنيئاً لعمرو ، أسلم على خير ومات على خير أحواله ، ثم تلَّبستُ بعد ذلك بأشياء فى أدرى أعليّ أم لي .

فإذا أنا مت فلا يُبكى عليّ ولا تُتبعونى ناراً ، وشُدوا عليّ إزارى فإنى مخاصَم ، فإذا أوليتُمونى فاقعدوا عندى قدر نحر جزور وتقطيعها أستأنس بكم حتى أعلم ما أُراجع به رُسُل ربى .

قال الذهبى : أخرجه أبو عَوانة فى مُسنده ، وفى رواية : أنه بعده حَوَّل وجهه الى الجدار وهو يقول : اللهُم أمرتنا فعصينا ، ونهيتنا فما انتهينا ، ولا يسَعُنا إلا عفُوك ، وفى رواية : أنه وضع يده على موضع الغُلّ من عنقه ورفع رأسه الى السماء وقال : اللهم لا قويّ فأنتصر ، ولا بريء فأعتذر ، ولا مُستكبر بل مُستغفر ، لا إله إلا أنت ، فلم يزل يُردّدّها حتى مات رضى الله عنه .

وقال الزهرى عن حُمَيد بن عبد الرحمن بن عمرو أن أباه قال : اللهم أمرت بأُمور ونهيت عن أمور ، فتركنا كثيراً مما أمرت ووقعنا فى كثير مما نهيت ، اللهم لا إله إلا أنت ، فلم يزل يرددها حتى مات رضى الله عنه .

وقال الزهري عن حُميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن أباه قال : اللهم أمرت بأمور ونهيت عن أمور ، فتركنا كثيراً مما أمرت ووقعنا فى كثير مما نهيت ، اللهم لا إله إلا أنت ، ثم أخذ بإبهامه فلم يزل يهلل بها حتى تُوفي .

قال الذهبيّ ، وأيده الطحاوى : حدثنا المُزنِ]ّ ، سمعت الشافعي رضى الله عنه يقول : دخل ابن عباس على عمرو بن العاص وهو مريض فقال : كيف أصبحت ؟ قال : أصبحتُ وقد أصلحتُ من دُنيايّ قليلاً ، وافسدتُ من ديني كثيراً ، فلو كان ما أصلحتُ هو ما أفسدتُ لفُزت ، ولو كان ينفهني أن أطلب لطلبت ، ولو كان يُنجينى أن أهرب لهربت ، فعِظنى بموعظة أنتفع بها يا ابن أخى ، فقال : هيهات يا أبا عبد الله ! فقال : اللهم إن إبن عباس يُقنطُنى من رحمتك فخذ منى حتى ترضى ، وكانت وفاة عمرو المذكور فى ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين ، فصلى عليه ابنه ودفنه ثم صلى بالناس صلاة العيد . قاله أبو فِراس مولى عبد الله بن عمرو . وقال الليث بن سعد والهيثم بن عديّ والواقدي ّ وابن بُكير : وسِنُه نحو مائة سنة ، وقال أحمد العِجلي وغيره : تسع وتسعون سنة ، وقال ابن نُمير : تُوفى سنة اثنتين وأربعين ، قلت : والأول هو المُتواتر .

وكان عمرو رضى الله عنه من أدهى العرب وأحسنهم رأياً وتدبيراً ، قيل إنه اجتمع مع مُعاوية بن أبى سُفيان مرة فقال له مُعاوية : مَنِ الناس ؟ فقال : أنا وأنت والمُغيرة بن شُعبة وزياد ، قال مُعاوية : كيف ذلك ؟ قال عمرو : أما أنت فللتأنى ، وأما أنا فللبديهة ، وأما المغيرة فللمُعضلات ، وأما زياد فللصغير والكبير ، قال مُعاوية : أما ذانك فقد غابا فهات بديهتك يا عمرو ، قال : وتريد ذلك ؟ قال نعم ، قال فأخرِج من عِندك ، فأخرجهم معاوية ، فقال عمرو : يا أمير المؤمنين أُسارّك ، فأدنى معاوية رأسه منه ، فقال عمرو : هذا من ذاك ، من معنا فى البيت حتى أُسارُك !

ولما مات عمرو وَلي مصر عُتبة بن أبى سُفيان من قِبل أخيه مُعاوية .

ـــــــــــــــــــــــــ

المصدر : النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة ، الجزء الأول

Read 4568 times