قيس بن سعد بن عبادة

هو قيس بن سعد بن عُبادة بن دُليم الأنصارى الخزرجى المدنى ، ولى حكم مصر عام 36 هـ ، قال الذهبى : كان من النبى صلى الله عليه وسلم بمنزلة ، وله عدة أحاديث .

 روى عنه عبد الرحمن بن أبى ليلى وعروة بن الزُبير والشعبى وميمون ابن أبى شبيب وغريب بن حميد الهمدانى وجماعة ، وكان ضخماً جسيماً طويلاً جداً ، سيداً مطاعاً ، كثير المال جواداً كريماً ، يُعدُ من دُهاة العرب .

قال عمرو بن دينار : كان ضخماً جسيماً صغير الرأس ليست له لحية ، وإذا ركب الحمار خَطَّت رجلاه الأرض ، روى عنه أنه قال : لولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( المكر والخديعة فى النار ) لكنت من أمكر هذه الأمة .

وقال الزهرى : أخبرنا ثعلبة بن أبى مالك أن قيس بن سعد كان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال جويرية بن أسماء : كان قيس يستدين ويطعمهم ، فقال أبو بكر وعمر : إن تركنا هذا الفتى أهلك مال أبيه ، فمشيا فى الناس ، فصلى النبى صلى الله عليه وسلم يوماً فقام سعد بن عُبادة خلفه فقال : من يعذرنى فى ابن أبى قحافة وابن الخطاب يُبخلان علىَّ ابنى .

وقال موسى بن عقبة : وقفت على قيس عجوز فقالت : أشكو إليك قلة الجرذان ، فقال : ما أحسن هذه الكناية ! إملؤوا بيتها خبزاً ولحماً وسمناً وتمراً .

وقال أبو تُميلة يحيى بن واضح : أخبرنا أبو عُثمان من ولد الحارث بن الصَّمَّة قال : بعث قيصر الى معاوية : إبعث إلىَّ سراويل أطول رجل من العرب ، فقال لقيس بن سعد : ما أظن إلا قد احتجنا الى سراويلك ، فقام وتنحى وجاء بها فألقاها ، فقال : ألا ذهبت الى منزلك ثم بعثت بها ! فقال :

أردت بها أن يعلم الناس أنها . . . سراويل قيس والوفود شهود

وألا يقولوا غاب قيس وهذه . . . سراويل عادىَّ نمته ثَمود

وإنى من الحى اليمانى لسيد . . . وما الناس إلا سيد ومسود

فكدهم بمثلى إن مثلى عليهم . . . شديد وخَلْقى فى الرجال مديد

فأمر معاوية أطول رجل فى الجيش فوضعها على أنفه ، قال : فوقفت بالأرض .

ولما ولاه أمير المؤمنين على بن أبى طالب على مصر لما ولى الخلافة بعد قتل عثمان وبعثه الى مصر فوصل اليها فى مستهل شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين ، فدخلها قيس ومهد أمورها واستمال الخارجية بخربتا من شيعة عثمان ورد عليهم أرزاقهم ، وقدموا عليه بمصر فأكرمهم وأنعم عليهم ، وكان عنده رأى ومعرفة ودهاء ، فعظم على معاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص ولايته لمصر فإنه كان من حزب على بن أبى طالب رضى الله عنه ، واجتهدا كثيراً ليخرجاه منها فلم يقدرا على ذلك حتى عمل معاوية على قيس من قبل على بن أبى طالب ، وأشاع أن قيساً من شيعته ومن حزبه ، وأنه يبعث إليه بالكتب والنصيحة سراً ، ولا زال يُظهر ذلك حتى بلغ علياً ، وساعده فى ذلك محمد بن أبى بكر الصديق لحبه مصر أو لإمرتها وعبد الله بن جعفر ، فما زالا بعلى حتى كتب لقيس بن سعد يأمره بالقدوم عليه وعزله عن مصر ، فكانت ولايته على مصر من يوم دخلها الى أن صرف عنها أربعة أشهر وخمسة أيام ، وكان عزله فى خامس من رجب سنة سبع وثلاثين ، وولى عليها الأشتر النخُعي .

وروينا عن أبى المظفر شمس الدين يوسف بن قزأوغلى كما أخبرنا أبو الحسن على بن صدقة الشافعى ، أخبرنا القاضى الإمام تاج الدين أحمد الفرغانى الحنفى ، أخبرنا حيدرة بن المحيا العباسى ، حدثنا صالح بن الصباغ ، أخبرنا أبو المؤيد محمود قال : خرج قيس بن سعد بن عبادة من عند على حتى دخل مصر فى سبعة نفر وصعد المنبر وقعد عليه وقرأ كتاب على على الناس وفيه :

( من عبد الله على بن أبى طالب أمير المؤمنين الى من بلغه كتابى هذا من المسلمين والمؤمنين : سلام عليكم ، أما بعد ، فإنى أحمد الله إليكم الذى لا إله إلا هو ، وأصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم ، ( وذكر الأنبياء ) وأن الله توفى رسوله واستخلف بعده خليفتين صالحين عملا بالكتاب والسنة وأحسنا السيرة ، ثم توفاهما الله تعالى على ما كانا عليه ، ثم ولى بعدهما والٍ أحدث أحداثاً فوجدت عليه الأمة مقالاً نقموا عليه وغيروه ، ثم جاؤونى وبايعونى ، ولله عليّ العمل بكتابه وسنة رسوله والنصح للرعية ما بقيت ، والله المستعان ، وبعثت إليكم بقيس بن سعد بن عُبادة أميراً ، فوازروه وعاشروه وأعينوه على الحق ، وقد أمرته  بالإحسان الى محسنكم والشدة على مريبكم والرفق بعوامكم وخواصكم ، وهو ممن أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصيحته ، وأسأل الله لنا ولكم عملاً صالحاً وثواباً جزيلاً ورحمة واسعة ، والسلام عليكم . وكتبه عبد الله بن أبى طالب فى رابع صفر سنة ست وثلاثين ) .

ثم قال قيس :

( أيها الناس قد جاء الحق وزهق الباطل ، أيها الناس ، إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقوموا فبايعوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن نحن لم نعمل بذلك فلا بيعة لنا عليكم ) ، فقام الناس وبايعوا واستقامت له مصر ، وبعث عليها عماله إلا قرية من قرى مصر يقال لها ( خَرِبْتا ) فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان ، وبها رجل من كنانة من بنى مُدلج يقال له : يزيد بن الحارث بن مُدلج ، فأرسلوه الى قيس بن سعد ( إنا لا نقاتلك فابعث عمالك فالأرض أرضك ، ولكن أقرنا على حالنا ننظر ما يصير اليه أمر الناس ) ووثب مسلمة بن مخلد الأنصارى فنعى عثمان ودعا الى الطلب بدمه ، فأرسل اليه قيس بن سعد ( ويحك ! علىَّ تثب ! فوالله ما أحب أن لى ملك مصر الى الشام وأنى قتلتك ) فبعث اليه مسلمة يقول : إنى كاف عنك ما دمت والى مصر . وكان قيس بن سعد له رأى وحزم ، فبعث الى الذين بخربتا : ( إنى لا أكرهكم على البيعة وأكف عنكم ) ، فهادنهم وهادن مسلمة بن مخلد . وأقام قيس يجبى الخراج ولا ينازعه أحد من الناس .

وخرج أمير المؤمنين الى وقعة الجمل ورجع الى الكوفة وقيس مكانه ، فكان قيس أثقل خلق الله على معاوية بن أبى سفيان لقربه من الشام مخافة أن يقفُل عليه عي بن أبى طالب من العراق ، ويُقبل إليه قيس بأهل مصر فيقع معاوية بينهما فأخذ يخدعه .

فكتب معاوية الى قيس :

( من معاوية بن أبى سفيان الى قيس بن سعد بن عُبادة : سلام عليك ، فإنى أحمد اليك الله الذى لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإنكم كنتم نقمتم على عثمان فى أمور رأيتموها ، أو ضربة سوط ضربها ، او شتمة شتمها ، أو فى سَيرٍ سَيّره ، أو فى استعماله الفئ ، فقد علمتم أن دمه لم يكن حلالاً لكم ، فقد ركبتم عظيماً من الأمر وجئتم شيئاً إدَّاً ، فتب الى الله يا قيس بن سعد ، فإنك ممن أعان على قتل عُثمان ، إن كانت التوبة من قتل المؤمن تُغنى شيئاً ، وأما صاحبك فقد تيقنا أنه الذى أغرى به الناس وحملهم على قتله حتى قتلوه ، وأنه لم يسلم من دمه عُظْمُ قومك . فإن استطعت أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل ، فإن بايعتنا على هذا الأمر فلك سلطان العراقين ، ولممن شئت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لى سلطان . وسلنى غير هذا مما تحب ، فإنك لا تسألنى شيئاً إلا أوتيته ، واكتب إليّ برأيك فيما كتبت به إليك والسلام ) .

فلما جاءه كتاب معاوية أحب قيس أن يُدافعه ولا يُبدى له أمره ولا يتعجل حربه ، فكتب اليه :

( أما بعد ، فقد بلغنى كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ، فأما ما ذكرت من أمر عثمان فذلك أمر لم أقاربه ولم أتنطف به ، وأما قولك : إن صاحبى أغرى الناس بعثمان فهذا أمر لم أطلع عليه ، وذكرت أن معظم عشيرتى لم يسلموا من دم عثمان ، فأول الناس فيه قياماً عشيرتى ولهم أُسوة غيرهم ، وأما ما ذكرت من مبايعتى إياك وما عرضت على فلي فيه نظر وفكرة وليس هذا مما يُسارعُ اليه ، وأنا كاف عنك ولن يبدو لك من قبلى شئ مما تكره والسلام ) .

فلما قرأ كتابه معاوية لم يره إلا مباعداً مفارقاً ، فلم يأمن مكره ومكيدته فكتب إليه ثانياً :

( أما بعد ، فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعُدَّك سِلماً ، ولم أرك مباعداً فأعُدَّك حرباً ، وليس مثلى من يُخدع وبيده أعنة الخيل ومعه أعداد الرجال ، والسلام ) .

فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يقبل منه المُدافعة والمُماطلة أظهر له ما فى نفسه ، وكتب إليه :

( أما بعد ، فالعجب من اغترارك بى يا مُعاوية وطمعك فيَّ ، تسُومني الخروج عن طاعة أولى الناس بالإمرة ، وأقربهم بالخلافة ، وأقولهم بالحق ، وأهداهم سبيلا ، وأقربهم الى رسوله وسيلة ، وأوفرهم فضيلة ، وتأمرنى بالدخول فى طاعتك ، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم بالزور وأضلهم سبيلا ، وأبعدهم من الله ورسوله وسيلة ، ولد ضالين مضلين طاغوت من طواغيت إبليس ، وأما قولك : معك أعنة الخيل وأعداد الرجال لتشتغلن بنفسك حتى العدم )

وقال هشام بن محمد الكلبى : ولما رأى معاوية أن قيس بن سعد لا يلين له كاده من قبل علي ، وكذا روى عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناده .

وقال هشام بن محمد : عن أبى مِخْنَف وجه آخر فى حديث قيس بن سعد ومعاوية ، قال : لما أيس معاوية من قيس بن سعد شق عليه ذلك لما يعرف من حزمه وبأسه ، فأظهر للناس أن قيساً قد بايعه ، واختلق معاوية كتاباً فقرأه على أهل الشام فيه :

( أما بعد ، لما نظرت أنه لا يسعنى مظاهرة قوم قتلوا إمامهم محرماً بَرَّاً تقياً مستغفراً ، وإنى معكم على قَتَلَته بما أحببتم من الموال والرجال متى شئتم عجلت إليكم )

قال : فشاع فى أهل الشام أن قيساً قد بايع مُعاوية ، وبلغ علياً ذلك فأكبره وأعظمه ، فقال له عبد الله بن جعفر : ( دع ما يَريبك الى ما لا يَريبك ، اعزل قيساً عن مصر ) فقال علي : والله ما أصدق هذا على قيس ، ثم عزله وولى الأشتر ، وقيل محمد بن أبى بكر الصديق فى قول بن سيرين ، فلما خلعه عرف قيس أن علياً قد خُدع وتوجه إليه وصار معه .

قال عُروة : وكان قيس بن سعد مع علي فى مقدمته ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤوسهم بعد موت علي ، فلما دخل الجيش فى بيعة مُعاوية أبى قيس أن يدخل ، وقال لأصحابه : ما شئتم جالدت بكم أبداً حتى يموتُ الأعجلُ ، وإن شئتم أخذت لكم أماناً . قالوا : خُذ لنا ، ففعل ، فلما ارتحل نحو المدينة جعل ينحر كل يوم جزوراً ، قال الواقدى وغيره : إنه توفى فى آخر خلافة مُعاوية ،رضى الله عنهم أجمعين .

 

Read 4042 times