وجاءه الكتاب بالولاية وهو بالفيوم ، فجعل لأهل الجواب جُعلاً فقدموا به الى مصر ، وسكن الفسطاط ومكث أميراً على مصر مُدة ولاية عثمان بن عفان كلها وهو أخو عُثمان لأمُه ، قال بن كثير : وهو الذى شفع له يوم الفتح حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه .
ولما ولى مصر أحسن السيرة فى الرعية ، وكان جواداً كريماً ، ثم أمره عُثمان أن يغزو أفريقية ، فإذا افتتحها كلن له خُمس الخُمس من الغنيمة نفلاً ، فسار عبد الله بن أبى سرح الى إفريقيه فى عشرة آلاف ، وغزاها حتى افتتح سهلها وجبلها وقتل خلقاً كثيراً من أهلها ، ثم اجتمعوا على الطاعة والإسلام وحَسُن إسلامهم ، وأخذ عبد الله بن أبى سرح خُمس الخُمس من الغنيمة ، وبعث بأربعة أخماسه الى عُثمان ، وقسم أربعة أخماس الغنيمة فى الجيش فأصاب الفارس ثلاثة آلاف دينار ، والراجل ألف دينار .
قال الواقدى : وصالحه بِطرِيقُها على ألفى ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار ، فأطلقها عُثمان كُلُها فى يوم واحد فى آل الحَكَم ، ويقال فى آل مروان ، ثم غزا عبد الله بن سعد إفريقة ثانية فى سنة ثلاث وثلاثين حين نقض أهلها العهج حتى أقرهم على الإسلام والجزية ، واستشهد معه فى هذه المره بإفريقية جماعة منهم : مَعبد بن العباس بن عبد المطلب وغيره .
ثم غزا فى سنة أربع وثلاثين ( أو واحد وثلاثين فى روايات أخرى ) غزوة ذات الصوارى فى البحر من ناحية الأسكندرية ، فلقيه قسطنطسن بن هرقل فى ألف مركب ، وقيل فى سبعمائه ، والمسلمون فى مائتى مركب ، وتقاتلا فانتصر الأمير عبد الله وهَزم الروم ، وإنما سميت غزوة ذات الصوارى لكثرة صوارى المراكب واجتماعها .
وعاد الى مصر فبلغه فى سنة خمس وثلاثين خبر من ثار على عثمان رضى الله عنه ، ودخل منهم طائفة الى مصر بأمر عثمان ، وكان قد أخرج منهم جماعة الى البصرة والشام ومصر ، فلما قدم من قدم منهم الى مصر وافقه جماعة من المصريين على خلاف عثمان كُرهاً فى ابن أبى سرح هذا لكونه ولى بعد عمرو بن العاص ، وأيضاً لإنشغاله عنهم بقتال أهل المغرب وفتح بلاد البربر وأندلُس وإفريقية وغيرها ، ونشأ بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حرب عثمان وحرب بن أبى سرح ، واجتمعوا واستنفروا من مصر فى ستمائة راكب يذهبون الى المدينة فى صفه معتمرين فى شهر رجب لينكروا على عثمان ، وساروا الى المدينة تحت أربع رايات ، وأمرُ الجميع الى عمرو بن بُديل بن ورقاء الخُزاعى ، وعبد الرحمن التُجيبى ، وأقبل معهم محمد بن أبى بكر الصديق ، وأقام بمصر محمد بن حُذيفة يؤلب الناس ويدافع عن هؤلاء ، فكتب ابن أبى سرح الى عُثمان يُعلمه بقدوم هؤلاء القوم الى المدينة مُنَكَّرين عليه فى صفة مُعتمرين ، فوقع لهم مع عُثمان رضى الله عنه أمور يطول شرحها ، الى أن سألوا عثمان عزل عبد الله بن أبى سرح عن ولاية مصر وتولية محمد بن أبى بكر الصديق ، فأجابهم الى ذلك ، فلما رجعوا وجدوا فى الطريق بريدياً يسير فأخذوه وفتشوه ، فإذا معه فى إداوة ( إناء صغير يُحمل فيه الماء ) كتاب كتبه مروان بن عبد الحكم كاتب عثمان وابن عمه ، والكتاب على لسان عثمان ، فيه الأمر بقتل طائفة منهم وصلب آخرين وقطع أيدى آخرين منهم وأرجلهم ، وكان على الكتاب طبع خاتم عثمان ، والبريد أحد غُلمان عثمان وعلى جمله ( يقول الطبرى أنه أبو الأعور السلمى ) فلما رجعوا جاؤوا بالكتاب الى المدينة وداروا به على الناس ، فكلم الناس عثمان فى أمر الكتاب فقال عثمان ما معناه أنه دُلِس عليه الكتاب ثم قال : والله ولا كتبته ولا أمليته ولا دريت بشئ من ذلك ، والخاتم قد يُزور على الخاتم ، فصدقه الصادقون وكذبه الكاذبون فى ذلك .
واستمر ابن أبى سرح على عمله على كُره من المصريين الى أن خرج من مصر متوجهاً الى عثمان بعد أن استخلف عليها عُقبة بن عامر الجُهنى .
وقتل عثمان رضى الله عنه واستُخلف على رضى الله عنه ، فعزل ابن أبى سرح عن مصر وولاها لقيس بن سعد بن عُبادة رضى الله عنهما .
استولى على مصر جماعة من قبل على بن أبى طالب سنة خمس وثلاثين ، وفيه عُزل عبد الله ابن أبى سرح عن مصر فى أحد الأقوال ، وفيها توجه عبد الله ابن أبى سرح الى عثمان واستخلف على مصر عُقبة بن عامر الجُهنى وقيل السائب بن هشام العامرى ، وجعل على خراجها سُلَيم بن عَتر أو عُمير الُّجيبى ، وكان ذلك فى رجب من سنة خمس وثلاثين ، وسار الى عُثمان فاستمر أمر مصر مستقيماً الى شوال من النة .
وفى هذا العام خرج محمد بن أبى حُذيفى بن عُتبة بن ربيعة على عُقبة بن عامر خليفة عبد الله ابن أبى سرح على مصر وملك مصر ، وفى هذا العام كانت مقتلة عُثمان بن عفان رضى الله عنه فى ذى الحجة منها .
وأما عبد الله ابن أبى سرح صاحب الترجمة ( يقول ابن تغرى بردى ) : فلم أقف له على خبر بعد ذلك ، غير أن بعض المؤرخين ذكروا أنه تُوفى بفلسطين فى سنة ست وثلاثين المذكورة ، ويقال غير ذلك أقوال كثيرة منها :
قال الحافظ شهاب الدين بن حجر العسقلانى فى الإصابة : روى الحاكم من طريق السُدِّى عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : لما كان يوم فتح مكة أمن النبى صلى الله عليه وسلم الناس كلهم إلا أربعة نفر وإمرأتين : عكرمة وابن خَطل ومِقيس بن صُبابة وعبد الله ابن أبى سرح ، وذكر الحديث ، قال : فأما عبد الله فاختبأ عند عُثمان فجاء به عُثمان حتى أوقفه على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يُبايع الناس ، فقال : يا رسول الله بايع عبد الله ، فبايعه ثلاث ، ثم أقبل على أصحابه فقال : أما فيكم رشيد يقوم الى هذا حيث رآنى كففت يدى عن مبايعته فيقتله .
ومن طريق يزيد النحوى عن عكرمة عن بن عباس قال : كان عبد الله ابن أبى سرح يكتب للنبى صلى الله عليه وسلم ، فأزله الشيطان فلحق بالكفار ، فأمر به رسول الله أن يُقتل ( يعنى يوم الفتح ) فاستجار له عثمان فأجاره النبى صلى الله عليه وسلم ، أخرجه أبو داوود .
وروى ابن سعد من طريق ابن المسيب قال : كان رجل من الأنصار نذر إن رأى عبد الله ابن أبى سرح أن يقتله ، فذكر نحواً من حديث مصعب بن سعد عن أبيه .
وروى الدارقطنى من حديث سعيد بن يربوع المخزومى نحو ذلك ، ومن طريق الحكم بن عبد الله عن قتادة عن أنس بمعناه ، وأوردها ابن عساكر من حديث عثمان بن عفان أيضاً ، وأفاد سِبط ابن الجَوزْزى فى ( مرآة الزمان ) أن الأنصارى الذى قال : فهلا أومأت إلينا ، هو عباد بن بِشر ، ثم قال : وقيل : إن الذى قال هو عُمر .
وقال ابن يونس : شهد فتح مصر واختط بها ، وكان صاحب الميمنة فى الحرب مع عمرو بن العاص فى فتح مصر ، وله مواقف محمودة فى الفتوح ، وأمرَّه عثمان على مصر ، ولما وقعت الفتنة سكن عسقلان ولم يُبايع لأحد ، ومات بها سنة ست وثلاثين ، وقيل : كان قد سار من مصر الى عُثمان واستخلف السائب بن هشام بن عمرو فبلغه قتلُه ، فرجع فتغلب على مصر محمد بن أبى حُذيفة فمنعه من دخلوها ، فمضى الى عسقلان ، وقيل الى الرملة ، وقيل بل شهد صفين ، وعاش الى سنة سبع وخمسين . ذكره ابن منده .
وقال البَغَوى : له عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث واحد وخرجه ( وفى الإصابة : وحرفه ) ووقع لنا بعلو فى المعرفة لابن منده .
ـــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : النجوم الزاهرة فى أخبار ملوك مصر والقاهرة ، الجزء الأول طبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومى