ثم إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً، فلما تهيأ للرحيل، وأجمع السير صب له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بزمام ناقته وقال: يا عم إلى من تكلني لا أب لي ولا أم؟ فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً؛ أو كما قال.
فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، وبهما راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان أعلم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيهم فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا مما يمرون به قبل ذلك لا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى إذا كان ذلك العام نزلوا به قريباً من صومعته، فصنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك -فيما يزعمون- عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب، حين أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الغمام حتى أظلت تحتها، فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم، وحركم وعبدكم، فقال له رجل منهم: يا بحيرا إن ذلك اليوم لشأنا ما كنت تصنع هذا فيما مضى، وقد كنا نمر بك كثيراً فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيرا: صدقت قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاماً تأكلون منه كلكم صغيركم وكبيركم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم -لحداثة سنه- في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، قال: يا معشر قريش لا يتخلف أحد منكم عن طعامي هذا،
قالوا له: يا بحيرا ما تخلف في رحالهم، قال: فلا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم، فقال رجل مع القوم من قريش: واللات والعزى إن هذا للؤم بنا، يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا! ثم قام إليه فاحتضنه، ثم أقبل به حتى أجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظاً شديداً، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده في صفته، حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرقوا قام بحيرا فقال له:
يا إلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسلني باللات والعزى شيئاً، فو الله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما، فقال له بحيرا: فبالله إلا أخبرتني عما أسلك عنه، قال: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله: من نومه، وهيئته، وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ منه أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الإلام منك؟ قال: ابني، قال له بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال:
صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
فزعموا فيما يتحدث الناس أن زبيرا وتماماً ودريسا، وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم -في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب- أشياء، فأرادوه، فردهم عنه بحيرا، وذكرهم الله عز وجل، وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، أنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم، وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا، فقال أبو طالب في ذلك من
الشعر، يذكر مسيره برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرادوا منهى-أولئك النفر- وما قال لهم فيه بحيرا:
إن ابن آمنة النبي محمداً عندي بمثل منازل الأولاد
لما تعلق لازمام رحمته والعيس قد قلصن بالأزواد
فارفض من عيني دمع ذارف مثل الجمان مفرق الأفراد
راعيت فيه قرابة موصولة وحفظت فيه وصية الأحداد
وأمرته بالسير بين عمومة بيض الوجوه مصالت أنجاد
ساروا لأبعد طية معلومة فلقد تباعد طيه المرتاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا لاقوا على شرك من المرصاد
حبراً فأخبرهم حديثا صادقا عنه ورد معاشر الحساد
قوماً يهوداً قد رأوا ما قد رأى ظل الغمام وعز ذي الأكياد
ساروا لقتل محمد فنهاهم عنه وأجهد أحسن الاجهاد
فثنى زبيراً بحيرا فانثنى في القوم بعد تجادل وبعاد
ونهى دريساً فانتهى عن قوله حبر يوافق أمره برشاد
وقال أبو طالب أيضاً:
ألم ترني من بعد هم هممته بفرقه حر الوالدين كرام
بأحمد لما أن شددت مطيتي برحلي وقد ودعته بسلام
بكى حزناً والعيس قد فصلت بنا وأخذت بالكفين فضل زمام
ذكرى أباه ثم رقرقت عبرة تجود من العينين ذات سجام
فقلت :تروح راشداً في عمومة مواسين في البأساء غير لئام
فرحنا مع العير التي راح أهلها شآمي الهوى والأصل غير شآمي
فلما هبطنا أرض بصرى تشرفوا لنا فوق دور ينظرون جسام
فجاد بحيرا عند ذلك حاشداً لنا بشراب طيب وطعام
فقال :اجمعوا أصحابكم لطعامنا فقلنا جمعنا القوم غير إلام
يتيم، فقال: ادعوه إن طعامنا كثير، عليه اليوم غير حرام
فلما رآه مقبلاً نحو داره يوقيه حر الشمس ظل غمام
حنا رأسه شبه السجود وضمه إلى نحره والصدر أي ضمام
وأقبل ركب يطلبون الذي رأى بحيرا من الأعلام وسط خيام
فثار إليهم خشية لعرامهم وكانوا ذوي دهى معا وعرام
دريساً وتماما وقد كان فيهم زبيراً وكل القوم غير نيام
فجاءوا وقد هموا بقتل محمد فردهم عنه بحسن خصام
بتاويله التوراة حتى تفرقوا وقال لهم: ما أنتم بطغام
فذلك من أعلامه وبيانه وليس نهار واضح كظلام
وقال طالب أيضاً:
بكى طرباً لما رآنا محمد كأن لا يراني راجعاً لمعاد
فبت يجافيني تهلل دمعة وقربته من مضجعي ووسادي
فقلت له: قرب قعودك وارتحل ولا تخشى مني جفوة ببلادي
وخل زمام العيسى وارتحلن بنا على عزمة من أمرنا ورشاد
ورح رائحاً في الراشدين مشيعاً لذي رحم في القوم غير معاد
فرحنا مع العير التي راح ركبها يؤمون على غوري أرض إباد
فما رجعوا حتى رأوا من محمد أحاديث تجلو غم كل فؤاد
وحتى رأوا حبار كل مدينة سجوداً له من عصبة وفراد
زبيراً وتماماً وقد كان شاهداً دريساً وهموا كلهم بفساد
فقال لهم قولاً بحيرا وأيقنوا له بعد تكذيب وطول بعاد
كما قال للرهط الذين تهودوا وجاهدهم في الله كل جهاد
فقال ولم بملك له النصح: رده فإن له أرصاد كل مضاد
فإني أخاف الحاسدين وإنه أخو الكتب نكتوب بكل مداد
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية ومعائبها لما يريد به من كرامته ورسالته، وهو على دين قومه، حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة وأحسنهم جواراً، وأعظمهم خلقاً، وأصدقهم حيثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تترهاً وتكرماً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر لي، يحدث عما كان يحفظه الله عز وجل به في صغره وأمر جاهليته.
حدثنا احمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: فحدثني والدي إسحق بن يسار عمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يذكر من حفظ الله عز وجل إياه: إني لمع غلمان هم أسناني قد جعلنا أزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها نلعب بها إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ثم قال: أشدد عليك إزارك.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن عمرو بن ثابت عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: حدثني بنت قريش البيت، فأفردت قريش رجلين رجلين، وكان النساء ينقلن الشيد، وكان الرجال ينقلون الحجارة، فكنت أنقل أنا وابن أخي، فكنا نحمل على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس ائتززنا، فبينا أنا أمشي ومحمد صلى الله عليه وسلم قدامي ليس عليه سيء، إذ خر محمد فانبطح، فألقت حجري وجئت أسعى وهو ينظر إلى السماء فوقه، فقلت: ماشأنك؟ فقام فأخذ ازاره وناني أمشي عرياناً، فلبثت أكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون، حتى أظهر الله عز وجل نبوته.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني محمد بن عبد الله ابن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما: قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلنا، فقلت لصاحبي: أتبصر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر فيها كما يسمر عزفاً بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان فلانة،
فجلست أنظر، وضرب الله عز وجل على أذني، فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت: ما فعلت شيئاً ثم أخبرته بالذي رأيت، ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة، ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت فقيل: فلان نكح فلانة فجلست أنظر، وضرب الله عز وجل على أذني، فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته.