مهاتير محمد الطبيب الذى أنقذ ماليزيا

Rate this item
(0 votes)
رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد

يعد مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق الذي تولى رئاسة الوزراء في 16 يوليو 1981م  ( وهو نفس العام الذي تولي فيه مبارك حكم مصر ) من أعظم القادة السياسيين والاقتصاديين في آسيا، حيث استطاع تغيير وجه ماليزيا، وتمكن من أن ينهض بها تنمويًّا ويجعلها في مصاف الدول الاقتصادية المتقدمة..  ولكنه في 31 أكتوبر 2003م أقدم على عمل نُعِدّه في عالمنا العربي والإسلامي غاية في الغرابة؛ فقد قرر الزعيم الماليزي الانسحاب من السلطة وهو في قمة مجده، وبكامل إرادته، فقرر اعتزال الحياة السياسية تمامًا، معطيًا الفرصة لغيره من أبناء وطنه أن يساهم في تطوير وبناء ماليزيا الحديثة، التي أصبحت الآن مصدر فخر وعزة للأمة الإسلامية كلها.

مهاتير محمد.. مولده وحياته

ولد مهاتير محمد في عام 1925م بولاية كيداه بماليزيا، وتلقى دراسته بكلية السلطان عبد الحميد، ثم درس الطب بكلية "المالاي" في سنغافورة، والتي كانت تعرف بكلية الملك إدوارد السابع الطبية، وقام بدراسة الشئون الدولية بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1967م.

قام السيد مهاتير بعد تخرجه بالعمل في مهنة الطب بعيادته الخاصة، والتي كان يقوم بعلاج الفقراء بها مجانًا، كما عمل كضابط طبيب بسلاح الخدمات الطبية، وعُرف مهاتير باهتماماته السياسية، فانضم لتنظيم اتحاد الملايو حيث تدرج فيه حتى أصبح عضو المجلس الأعلى لتنظيم اتحاد الملايو الوطني..

وبدأ ظهور الدكتور مهاتير محمد في الحياة السياسية الماليزية في عام 1970م، وذلك عندما ألف كتابًا بعنوان "معضلة الملايو"، انتقد فيه بشدة شعب الملايو واتهمه بالكسل، والرضا بأن تظل بلاده دولة زراعية متخلفة دون محاولة تطويرها، وكان في ذلك الوقت عضوًا في الحزب الحاكم، والذي يحمل اسم منظمة الملايو القومية المتحدة، وقرر الحزب منع الكتاب من التداول نظرًا للآراء العنيفة التي تضمنها، وأصبح مهاتير محمد في نظر قادة الحزب مجرد شاب متمرد لا بد أن تحظر مؤلفاته!!

غير أن مهاتير سرعان ما أقنع قادة الحزب بقدراته، مما يدل على حنكته السياسية؛ فهو لم يغضب ويترك الحزب، وبالفعل صعد نجمه في الحياة السياسية بسرعة، حتى تولى رئاسة وزراء بلاده في عام 1981م، وأتيحت له الفرصة كاملة ليحوِّل أفكاره إلى واقع عملي.

مهاتير محمد.. تجربة نجاح

لم يكن مهاتير محمد مجرد رجل سياسة، بل كان -أيضًا- مفكرًا له كتبه ومؤلفاته، وكان صاحب رؤية لما ينبغي أن تكون عليه بلاده، ولقد استفاد مهاتير من كل ما حققته ماليزيا منذ الاستقلال من نجاحات واستثمرها وجعلها قاعدة لانطلاقته، ولم يرد الدكتور مهاتير أن يكون انطلاقه عشوائيًّا، بل بدأ يبحث في تجارب الدول الأخرى وخاصة الآسيوية، حيث اتسمت سياسته بالاتجاه شرقًا، واستقر اختياره على المعجزة اليابانية، فجعلها أمامه قدوة ومثلاً أعلى.. وقد كان توجُّه مهاتير محمد ناحية اليابان مستلهمًا من تجربة نجاحها ملحوظًا بشكل كبير، وقد صرح بذلك في العديد من المناسبات.

اختارت ماليزيا اليابان التي تحتل مكانة عالمية وإقليمية على كافة المستويات وخاصة التصنيعية، حيث تجاوز حجم إجمالي الناتج المحلي الياباني عدة مرات إجمالي الناتج المحلي لدول شرق آسيا مجتمعة، بما فيها الصين خلال فترة الثمانينيات، وكانت اليابان من الأسباب الجوهرية التي ساهمت في يقظة وتوعية الشعب الآسيوي مما أطلق عليه "وهم التفوق الأوربي".

وكان رأي مهاتير محمد أن الاستراتيجية التي انتهجتها اليابان في إنتاج سلع جيدة بأسعار زهيدة ساهمت بشكل كبير في تحقيق تفوقها على المنتجات الأوربية والأمريكية ذات الأسعار المرتفعة، وبالتالي نجحت في السيطرة على أسواق آسيا وإفريقيا، إضافة إلى اتباع سياسة منهجية في التصنيع، وإيجاد قيادات تتمتع بمستوى علمي فائق، وتتميز بالتطور والإبداع، وعلى المستوى المعنوي نجد في اليابان الالتزام الأخلاقي والمهني بقيم العمل الآسيوية، مما يستتبعه التفاني والجدية في الأداء المهني.

لقد تسلّم مهاتير محمد السلطة بعد مرور أكثر من عقدين على الاستقلال، وفي هذه الفترة تم قطع خطوات مهمة في طريق الإصلاح والبناء؛ مما وفر له قاعدة تصلح للارتكاز عليها، وباختياره لليابان كنموذج تنموي تكشَّف أمامه الطريق نحو المستقبل، وجاء دوره المفصلي في تاريخ ماليزيا، وهو كيفية إدارته للدولة، والقفز بها إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى.

عوامل نهضة ماليزيا الإسلامية

لعل أبرز ما يميز المرحلة المهاتيرية تلك الطفرة الاقتصادية اللافتة، حيث أصبحت فيها ماليزيا دولة صناعية متقدمة، يساهم قطاعي الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي عهده بلغت نسبة صادراتها من السلع المصنعة 85% من إجمالي صادراتها، وأنتجت 80% من السيارات التي تسير في طرقاتها، وأصبحت من أنجح البلدان في جنوب آسيا، بل وفي العالم الإسلامي بأكمله، فكيف فعل هذ ؟!

إذا نظرنا لهذه المرحلة نظرة تحليلية متعمقة نجد أن الدكتور مهاتير محمد انطلق في عدة محاور وفي وقت واحد، ولكنه قام بالتركيز على ثلاثة محاور بصفة خاصة، وهي: محور التعليم، ويوازيه محور التصنيع، ويأتي في خدمتهما المحور الاجتماعي.

وكان اهتمامه بالتعليم منذ مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية؛ فجعل هذه المرحلة جزءًا من النظام الاتحادي للتعليم، واشترط أن تكون جميع دور الرياض وما قبل المدرسة مسجلة لدى وزارة التربية، وتلتزم بمنهج تعليمي مقرر من الوزارة. كما تم إضافة مواد تُنمي المعاني الوطنية، وتغرز روح الانتماء للتعليم الابتدائي، أي في السنة السادسة من عمر الطفل.. ومن بداية المرحلة الثانوية تصبح العملية التعليمية شاملة، فبجانب العلوم والآداب تدرَّس مواد خاصة بالمجالات المهنية والفنية، والتي تتيح للطلاب فرصة تنمية وصقل مهاراتهم.

وإلى جانب ذلك كان إنشاء الكثير من معاهد التدريب المهني، التي تستوعب طلاب المدارس الثانوية وتؤهلهم لدخول سوق العمل في مجال الهندسة الميكانيكية والكهربائية وتقنية البلاستيك، وكان من أشهر هذه المعاهد معهد التدريب الصناعي الماليزي، والذي ترعاه وزارة الموارد البشرية، وقد أصبح له تسعة فروع في مختلف الولايات الماليزية.

كما واكب الاهتمام بالتعليم دخول ماليزيا مرحلة التصنيع، الأسمنت والحديد والصلب، بل وتصنيع السيارة الماليزية الوطنية (بريتون)، ثم التوسع في صناعة النسيج وصناعة الإلكترونيات، والتي صارت تساهم بثلثي القيمة المضافة للقطاع الصناعي، وتستوعب 40% من العمالة.

وكانت التسعينيات من القرن الماضي مرحلة نضج الثمرة، حيث وُضعت ماليزيا في قائمة الدول المتقدمة؛ ففي مجال التعليم ، وتوافقًا مع ثورة عصر التقنية، قامت الحكومة الماليزية في عام 1996م بوضع خطة تقنية شاملة، من أهم أهدافها إدخال الحاسب الآلي والارتباط بشبكة الإنترنت في كل مدرسة، بل في كل فصل دراسي!!

وبالفعل بلغت نسبة المدارس المربوطة بشبكة الإنترنت في ديسمبر 1999م أكثر من 90%، وبلغت هذه النسبة في الفصول الدراسية 45%، كما أنشأت الحكومة الماليزية العديد مما يعرف بالمدارس الذكية التي تتوفر فيها مواد دراسية تساعد الطلاب على تطوير مهاراتهم واستيعاب التقنية الجديدة، وذلك من خلال مواد متخصصة عن أنظمة التصنيع المتطورة وشبكات الاتصال، ونظم استخدام الطاقة التي لا تحدث تلوثًا بالبيئة.

كما تنفذ عملية التدريس والتعليم في هذه المدارس وفقًا لحاجات الطلاب وقدراتهم ومستوياتهم الدراسية المختلفة، ويتم اختيار مدير المدرسة من القيادات التربوية البارزة، ويساعده فريق من الأساتذة ممن لديهم قدرات مهنية ممتازة،كما تتيح مشاركة الطلاب في اختيار البرامج الدراسية، بجانب حرص هذه المدارس على التنويع والتطوير في أساليب التدريس، مثل الرحلات العلمية والأيام الترفيهية.

لقد حددت الدولة أولوياتها بدقة، فإذا نظرنا إلى إجمالي ما أنفقته الحكومة الماليزية على التعليم في عام 1996م على سبيل المثال نجده 2.9 مليار دولار، بنسبة 21.7% من إجمالي حجم الإنفاق الحكومي، وازداد هذا المبلغ إلى 3.7 مليار دولار عام 2000م بما يعادل نسبة 23.8% من إجمالي النفقات الحكومية.

وكان إنفاق هذه المبالغ على بناء مدارس جديدة، وخاصة المدرس الفنية، وإنشاء معامل للعلوم والكمبيوتر، ومنح قروض لمواصلة التعليم العالي داخل وخارج البلاد.. وبالإضافة إلى الدعم والتسهيلات الكبيرة التي تقدمها الدولة، فإن إلزامية التعليم أصبحت من الأمور التي لا جدال فيها، وأصبح القانون الماليزي يعاقب الآباء الذين لا يرسلون أبناءهم إلى المدارس!!

كل ذلك بجانب الحرص على الانفتاح، والاستفادة من النظم التعليمية المتطورة في الدول المتقدمة، وفي هذا السياق تم إنشاء أكثر من 400 معهد وكلية جامعية خاصة، تقدم دراسات وبرامج توءمة مع جامعات في الخارج، كما أتاحت الفرصة للطلاب الماليزيين لمواصلة دراستهم في الجامعات الأجنبية.. إلا أن ما يستحق التسجيل ويدعو إلى الإعجاب، تلك الفكرة الجديدة التي قامت بها الحكومة الماليزية، عندما عملت على تقوية العلاقة بين مراكز البحوث والجامعات وبين القطاع الخاص؛ بعبارة أخرى تم فتح المجال لاستخدام أنشطة البحث الجامعية لأغراض تجارية!!

وقد كان لتلك الفكرة أعظم الأثر على الجميع؛ فلم تعد الحكومة الآن مطالبة بدعم كل الأنشطة البحثية بمفردها، بل شاركتها في ذلك المصانع والمؤسسات المالية والاقتصادية، كل حسب حاجته.. وفي ذات الوقت لا تكاد تجد مركز أبحاث يشكو من قلة الدعم الحكومي، وهذا إضافة إلى أن الدولة استطاعت أن توجه ما كان يمكن أن يصرف على هذه الأنشطة إلى مصارف أخرى مهمة. ومن جراء ذلك امتلكت المصانع الماليزية القدرة على التطوير، بل والابتكار والمنافسة، وإثبات وجودها في الأسواق المحلية والعالمية.

ولم تنس الحكومة المرأة الماليزية، والتي حصلت على نصيبها من التعليم كالرجل تمامًا، بل تقدِّم الحكومة قروضًا بدون فوائد لتمكين الآباء من إرسال بناتهم إلى المدارس وتوفير مستلزمات المدرسة، وتعطي الفقراء مساعدات مجانية لهذا الغرض.

مهاتير محمد ونهضة اقتصاد ماليزيا

وبالتوازي مع الاهتمام بالتعليم، فقد دخلت ماليزيا في التسعينيات مرحلة صناعية مهمة، وذلك حين شجعت الصناعات ذات التقنية العالية وأولتها عناية خاصة، وقد كان ذلك بعد أن توافر لديها جيل جديد من العمالة الماهرة المتعلمة، والمدربة بأحدث الوسائل، فأصبح في مقدورها إثبات وجودها، بل والمنافسة على الصدارة.

ومن أبلغ ما يبين نجاح الأداء الاقتصادي لماليزيا في الفترة المهاتيرية، ذلك التوسع الذي حدث في استثمارات القطاع الصناعي، حيث أنشئ أكثر من 15 ألف مشروع صناعي، بإجمالي رأس مال وصل إلى 220 مليار دولار، وقد شكلت المشروعات الأجنبية حوالي 54% من هذه المشاريع، بما يوضح مدى الاطمئنان الذي يحمله المستثمر الأجنبي لماليزيا من ناحية الأمان، وبالتأكيد ضمان الربحية العالية، بينما مثلت المشروعات المحلية 46% من هذه المشاريع.

وقد كان لهذه المشروعات عظيم الأثر والنفع على الشعب الماليزي؛ حيث وفرت مليوني وظيفة للمواطن الماليزي، إلى جانب الفائدة الكبرى المتمثلة في نقل التقنية الحديثة وتطوير مهارات العمالة الماليزية.. أيضًا تحققت في فترة ولاية مهاتير محمد طفرة ملحوظة في مشروعات الاتصالات والمعلومات التي كانت تحظى باهتمام ودعم حكومته كعنصر مهم من عناصر خطته التنموية، وكان يسميه "الاقتصاد المعرفي"، وبالفعل أصبحت ماليزيا محطة إقليمية وعالمية في مجال صناعة الاتصالات والمعلومات والإنترنت.

والمثير للإعجاب أن مهاتير محمد كان دائمًا وفي كل المحافل الدولية يعتز بإسلامه، ويرجع نجاحه إلى تطبيقه لتعاليم الإسلام، وأنه ينطلق نحو النجاح بفهم عميق لجوهر الدين الإسلامي الذي يعلي من قيمة العلم والتقدم.. فنجده في أحد خطاباته يقول: "إن ماليزيا واثقة بأن الأمة الإسلامية يمكنها أن تكون أقوى قوة في العالم إذا توحدت، وأحسنت استخدام ثرواتها ومصادرها المختلفة"، ووضح بأن على هذه الأمة أن تنشط في تحصيل العلوم وتقتحم مجال تكنولوجيا المعلومات حتى تستطيع أن تنافس تقدم الغرب في هذا المجال الحيوي والمهم في هذا العصر.

كما أن الدور الذي قام به مهاتير محمد في إدارته للأزمة المالية التي عصفت بكل دول شرق آسيا لا ينكر؛ ففي نهاية التسعينيات تعرضت العملة الماليزية، وهي الرينجيت، إلى مضاربات واسعة بهدف تخفيض قيمتها، وظهرت عمليات تحويل نقدي واسعة إلى خارج ماليزيا، وبالأخص من جانب المستثمرين الأجانب، وبدا أن النجاح الذي حققته على وشك التحول إلى فشل. وبعد بحث مستفيض للموضوع أصدر مهاتير محمد مجموعة قرارات تهدف إلى فرض قيود على التحويلات النقدية خاصة الحسابات التي يملكها غير المقيمين، وفرض أسعار صرف محددة لبعض المعاملات، في الوقت الذي اتجهت فيه معظم الدول لسياسة تعويم العملة تنفيذًا لنصائح صندوق النقد الدولي، ورغم ضغوط البنك الدولي أصر مهاتير على سياسته التي أثبتت الأيام أنها كانت ناجحة، وبفضلها اجتازت ماليزيـا هذه الأزمة بأقل الخسائر، بل إن دولاً كثيرة درست سياسته، وحاولت تكرارها والاستفادة منها.

استقالة مهاتير محمد وأسباب نجاحه

أخيرًا، وبعد أن شعر الدكتور مهاتير محمد بأنه قد انتهى من أداء رسالته أعلن استقالته من جميع من مناصبه الحزبية في قراره التاريخي، وبالطبع لم يكن ما قام به مهاتير محمد -76 عامًا في ذلك الوقت- بالحدث العابر؛ فهو أطول زعماء شرق آسيا المنتخبين حكمًا، واسمه ارتبط بالحكم في ماليزيا محليًّا ودوليًّا، ومن ثَم أثارت استقالته جدلاً كبيرًا، وظل الكثير لفترة غير مصدق ويعتقد أنها مناورة سياسية.

وكان لهم بعض الحق في ظنهم؛ فالمدة الطويلة التي أمضاها مهاتير محمد في السلطة بجانب أن 45% من الشعب الماليزي لم يعرفوا خلال حياتهم غير مهاتير رئيسًا للوزراء، والكل بصورة عامة لا ينكر الإنجازات الصناعية والمالية والمعمارية التي شهدتها ماليزيا خلال فترة ولايته، إضافة إلى بروز اسمها على خريطة العالم بين الأمم، وظهوره كزعيم سياسي مسلم بارز في الساحة الدولية.. فمن أشهر أقواله: "إذا كنا جميعًا رجال دين فمن سيقوم بتصنيع الطائرات والصواريخ والسيارات وأدوات التكنولوجيا الحديثة؟! فيجب أن يكن هناك علماء في التجارة وفي العلوم التقنية الحديثة وفي كل مجالات المعرفة، ولكن على أساس من التعاليم الإسلامية".

في النهاية وبعد أن استعرضنا هذه التجربة الناجحة الفذة والتي نتشرف بانتمائها إلى عالمنا الإسلامي، نريد أن نلفت الانتباه إلى عاملين أساسيين ساهما في نجاح مهاتير محمد؛ أوَّلهما "القدوة" بمعنى حرصه على البداية من حيث انتهى الآخرون. ونجد هذه القاعدة بوضوح عندما قرر مهاتير محمد البحث في تجارب الدول الناجحة، والتعرف على الطرق التي سلكوها لتحصيل النجاح والاختيار من بينها، إلى جانب التعرف على الأخطاء التي وقعوا فيها، والمشاكل التي واجهتهم في طريقهم حتى يتجنبها..

مع الانتباه إلى أنه ما يصلح لدولة ليس بالضرورة أن يصلح لغيرها؛ ولذا كان عليه أن يتحرى بدقة لاختيار النموذج الذي سيصبح القدوة للدولة الماليزيـة الناشئة، واستقر في النهاية على اتخاذ اليابان كقدوة لبلاده للتشابه الكبير بين ظروفهما من حيث قلة الموارد الطبيعية، وتركيز اليابان على العنصر البشري وتنمية مهاراته وإعداده لبناء نهضتها الصناعية، بجانب حرصها على الجانب الخلقي وغرس المفاهيم مثل أهمية العمل الجماعي، وأهمية الانتماء للوطن والعمل على رفعته.

أمَّا العامل الثاني فهو "الإدارة الجيدة"، فبعدما توافرت إرادة النجاح لدى المجتمع الماليزي، بجانب تكوين قاعدة ارتكاز معقولة من تعليم جيد وقدر معتبر من صناعات وطنية تتجه نحو تحقيق الاكتفاء، بقي دور القائد الماهر الذي يستطيع إدارة هذه العوامل ويجيد استخدامها ليصل إلى النجاح المنشود، هذا الدور الذي قام به باقتدار الدكتور مهاتير محمد، ولم يكن الأمر سهلاً، فلقد كان يسير على الأشواك، فنراه يستنهض همة شعب بكامله ويحفزه للعمل، ونراه يتابع تنفيذ مراحل خطته دون كلل، ونراه يقضي على أي محاولة لإثارة الفتنة بين التركيبة الصعبة للمجتمع الماليزي بكل حزم، وذلك بجانب حرصه على تنفيذ سياسة خارجية متميزة، جعلت له مكانة في المحافل الدولية كمفكر وصاحب رأي.

روشتة مهاتير محمد لإنقاذ مصر

لم أعتمد يوماً علي تقارير الموظفين البيروقراطيين ، كنت اطلب ارقاما دقيقة عن أوضاع العاطلين والأميين والمهمشين ولا أسمح بالتلاعب أو تجميل الموقف، وكان الانفتاح علي غير المسألة حياة أو موتاً لأن بناء الإنسان الماليزي الجديد يحتاج الي خبرات الاخرين، فقررت أن أعتمد علي الخبرة اليابانية وأن أستفيد من تجربة سنغافورا ولم يشدني النموذج الاميركي أو الأوروبي بل شدتني تجارب الدول التي تقع في محيطي الجغرافي وكانت لديها تخلف مماثل لما في بلادي، وأرسلت آلاف الطلاب والباحثين الي الجامعات اليابانية أولاً ثم الي أوروبا بعد ذلك وأسسنا عاصمة ادارية جديدة وتكنولوجية بعد أن اكتشفنا أن كولالمبور لم تعد تلبي متطلبات المرحلة الجديدة ونقلت مكتبي الي هناك واشتغلنا من نقطة الصفر .

إلي هنا انتهي كلام مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا السابق

لم يكن مهاتير محمد شخصاً عادياً، كان يبيع الموز والفطائر أثناء احتلال اليابان لبلاده في الحرب العالمية الثانية ليدعم دخل الأسرة، بل كان رجلاً يدرك أهمية المسئولية الملقاة علي عاتقه، فقد طلق الطب واعترك السياسة فتم انتخابه نائباً في البرلمان الماليزي عام 1964، وذلك بعد أن بدأ العمل السياسي من سن 18 عاماً.

يقول في رؤيته التي قدمها لإنقاذ البلاد: مصر كانت تقع تحت حكم سلطوي لفترة طويلة في الوقت الذي كانت فيه ماليزيا تقع تحت حكم ديمقراطي وكل إنسان يتطلع للتمتع بحكومة ديمقراطية تعبر عن رغبات الشعب كما أن الديمقراطية ليست أسهل شيء في الوجود لأنك إن لم تفهم القيود التي تضعها الديمقراطية فسوف تنهار البلاد، إذن يجب أن يفهم الشعب ما هي الديمقراطية؟ وكيف تعمل؟ فلا يجب علي الشعب أن يطلب من الحكومة أن تتحلي بكل الطاقات لكي تستوعبه ولكن عليه هو أن يعي ذلك لأن عدم الاستقرار لن يسهم في خلق مناخ تنموي لأي دولة، وهذا وحده لا يضمن نجاح الحكومة فنحن في ماليزيا كنا محظوظين لأن عدد السكان كان قليلاً وقت الاستقلال، فالديمقراطية هي القوة التي تصنع الحكومات أو تكسرها، وإذا حاولنا الإطاحة بالحكومة فلابد أن يحدث ذلك عن طريق انتخابات حرة وهذا يتطلب نوعاً خاصاً من التفكير وهو أن نكون دائماً علي استعداد لأن نخسر المعركة.

واستطرد: أعتقد أن مصر قد تعافت من المرحلة السابقة بعض الشيء ولكن تحتاج إلي درجة من الاستقرار والسلام والعمل لأنني لا أؤمن بالاقتراض علي الإطلاق ويجب أن نتذكر أنه حينما نقترض المال فإنك تكون مضطرا لهذا الذي يقرضك مالا، أما إذا اضطررنا لهذا الاقتراض يجب أن يكون في نطاق ضيق .

Read 1358 times Last modified on الجمعة, 06 آب/أغسطس 2021 11:50