قال الليث بن سعد : كان يقول عبد الملك بن رفاعة : إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الأمانة من الطاق يعني بهذا الكلام في حق كل عامل على بلد. قلت: وهذا أيضاً في حق كل حاكم كائن من كان. وفي الجملة فقد كان بينه، وبين قرة بن شريك زحام. وكان المتولي في أيام عبد الملك بن رفاعة على خراج مصر أسامة بن زيد التنوخي، وعلى الشرطة أخاه الوليد بن رفاعة.
قال الكندي: كتب سليمان بن عبد الملك بن مران إلى أسامة: احلب الدر حتى ينقطع، وأحلب الدم حتى ينصرم. قال: فذلك أول شدة دخلت على أهل مصر. وقال يوماً سليمان بن عبد الملك - وقد أعجبه فعل أسامة بن زيد المذكور - : هذا أسامة لا يرتشي ديناراً ولا درهماً؛ فقال له ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مران: أنا أدلك على من هو شر من أسامة ولا يرتشي ديناراً ولا درهماً؛ قال سليمان: ومن هو؟ قال عمر: عدو الله إبليس ؛ فغضب سليمان وقام من مجلسه.
ولما مات سليمان بن عبد الملك وتولى عمر بن عبد العزيز الخلافة وجه في عزل أسامة بن زيد المذكور قبل دفن سليمان، وأقر عبد الملك بن رفاعة على عمله بمصر مدة، ثم عزله بأيوب بن شرحبيل في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين. وكانت ولاية عبد الملك بن رفاعة على مصر في هذه المرة ثلاث سنين تخميناً. وتأتي بقية ترجمته في ولايته الثانية إن شاء الله تعالى.
وفي أيام عبد الملك هذا قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير، وكان أبوه استعمله على الأندلس لما قدم الشأم. وكان سببه أنه تزوج بامرأة رذريق فحملته على أن يأخذ أصحابه ورعيته بالسجود له عند الدخول عليه كما كان يفعل لزوجها، فقال: إن ذلك ليس في ديننا، وكان ديناً فاضلاً، فلم تزل به حتى أمر بفتح باب قصير، فكان أحدهم إذا دخل عليه طأطأ رأسه فيصير كالراكع له، فرضيت به وقالت له: الآن لحقت بالملوك، وبقي أن أعمل لك تاجاً مما عندي من الذهب واللؤلؤ فأبى، فلم تزل به حتى فعل، فانكشف ذلك للمسلمين، فقيل: إنه تنصر. فثاروا عليه وقتلوه بدسيسة من عند عبد الملك هذا بآمر سليمان بن عبد الملك، فدخلوا عليه، وهو يصلي الصبح في المحراب وقد قرأ الفاتحة وسورة الواقعة، فضربوه بالسيوف ضربة واحدة واحتزوا رأسه وسيروه إلى سليمان، فعرضه سليمان على أبيه فتجلد للمصيبة وقال: هنيئاً له الشهادة، فقد قتلتموه والله صواماً قواماً. فعد الناس ذلك من زلات سليمان بن عبد الملك.
السنة الأولى من ولاية عبد الملك بن رفاعة الأولى على مصر وهي سنة ست وتسعين:
فيها غزا مسلمة بن عبد الملك الصائفة.
وفيها افتتح العباس بن الوليد بن عبد الملك طرسوس.
وفيها عزم الوليد قبل موته بمدة يسيرة على خلع أخيه سليمان بن عبد الملك من ولاية العهد؛ وكان الوليد قد شاور الحجاج في ذلك فأشار عليه بخلعه، فكتب الوليد إلى أخيه سليمان بذلك فامتنع، وكان بفلسطين، فعرض عليه الوليد أموالاً كثيرة، فأبى. فكتب الوليد إلى عماله أن يخلعوا سليمان ويبايعوا لابنه عبد العزيز بن الوليد، فلم يجبه إلى ذلك سوى الحجاج وقتيبة بن مسلم. ثم قال لعمر بن عبد العزيز: بايع لابن أختك عبد العزيز، فإن عبد العزيز بن الوليد كانت أمه أخت عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: إنما بايعناك وسليمان في عقد واحد، فكيف نخلعه ونتركك! فأخذ الوليد منديلا وجعله في عنق عمر بن عبد العزيز ولواه حتى كاد أن يموت، فصاحت أخته أم البنين زوجة الوليد حتى أطلقه وحبسه في بيتٍ ثلاثة أيام إلى أن قالت له أم البنين: أخرج أخي، فأخرجه وقد كاد أن يموت، وقد التوى عنقه، فقالت أم البنين: اللهم لا تبلغ الوليد في ولد عبد العزيز ما أمله. وفيها قتل قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصين بن أسيد بن زيد بن قضاعة الباهلي؛ وهو من التابعين، وكنيته أبو صالح. كان من كبار أمراء بني أمية. ولاه الحجاج خراسان، وفتح الفتوحات؛ فلما ولي سليمان بن عبد الملك الخلافة نقم عليه لكونه كان خلعه في أيام أخيه الوليد، فبعث إليه من قتله بعد أمور وحروب.
وفيها توفي الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، ابن عم الحجاج ؛ كان ولاه الحجاج البصرة وزوجه أخته زينب بنت يوسف.
وفيها توفي عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وأمه حفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب. كان من الطبقة الثالثة من تابعي أهل المدينة.
وفيها افتتح قتيبة مدينة كاشغر.
وفيها حج بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو أمير المدينة؛ وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين المهملة، وكان على حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن، وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد بن المهلب، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي مسعود.
وفيها توفي الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مران أمير المؤمنين أبو العباس الأموي الدمشقي، من الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشأم ؛ وكان الوليد عند أهل الشأم أفضل خلفائهم من كونه بنى المساجد والجوامع وبنى جامع دمشق ومسجد المدينة؛ وهو أول من اتخذ دار الضيافة للقادمين، وبنى البيمارستانات للمرضى، وساق المياه إلى مكة والمدينة، ووضع المنابر في الأمصار؛ غير أنه كان له مساوىء من كونه كان أقر الحجاج على العراق وأشياء غير ذلك؛ وتولى الخلافة من بعده أخوه سليمان بن عبد الملك.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعاً. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثلاثة وعشرون إصبعاً.
السنة الثانية من ولاية عبد الملك بن رفاعة على مصر وهي سنة سبع وتسعين:
فيها غزا يزيد بن المهلب جرجان. قال المدائني: غزاها ولم تكن يومئذ مدينة إنما هي جبال محيطة بها.
وفيها حج بالناس الخليفة سليمان بن عبد الملك.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك برجمة وحصن ابن عوف وافتتح أيضاً حصن الحديد وسردا، وشتى بنواحي الروم.
وفيها بعث سليمان بن عبد الملك على الغرب محمد بن يزيد مولى قريش فولي سنتين وعدل. ولكنه عسف على موسى بن نصير وقبض على ابنه عبد الله وسجنه، ثم جاء البريد بأن يقتله، فتولى قتله عبيد الله بن خالد بن صابي، وكان أخوه عبد العزيز بن موسى على الأندلس. ثم ثاروا عليه فقتلوه في سنة تسع وتسعين لكونه خلع طاعة سليمان؛ قتله وهو في صلاة الفجر حبيب بن أبي عبيد بن عقبة بن نافع الفهري.
وفاة موسى بن نصير
هو صاحب فتوحات الغرب، وكنيته أبو عبد الرحمن. قيل: أصله من عين التمر، وقيل: هو مولى لبني أمية، وقيل: لامرأة من لخم. مات بطريق مكة الخليفة سليمان بن عبد الملك. مولده بقرية كفرتوثا من قرى الجزيرة في سنة تسع عشرة؛ وولاه معاوية بن أبي سفيان غزو البحر فغزا قبرس وبنى بها حصوناً ثم غزا غيرها؛ وطالت أيامه وفتح الفتوحات العظيمة ببلاد المغرب؛ وكان شجاعاً مقداماً جواداً.
وفيها جهز الخليفة سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية واستعمل ابنه داود على الصائفة فافتتح حصن المرأة.
وفيها غزا عمر بن هبيرة أرض الروم في البحر وشتى بها.
وفيها عزل سليمان داود بن طلحة الحضري عن إمرة مكة، وكان عمله عليها ستة أشهر، وولى عوضه عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر إصبعاً. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وخمسة أصابع.
السنة الثالثة من ولاية عبد الملك بن رفاعة على مصر وهي سنة ثمان وتسعين:
فيها غزا يزيد بن المهلب بن أبي صفرة طبرستان، فصالحه صاحبها الأصبهبذ على سبعمائة ألف، وقيل: خمسمائة ألف في السنة.
وفيها غدر أهل جرجان وقتلوا عاملهم وجماعةً من المسلمين. فسار إليهم بزيد بن المهلب بن أبي صفرة وقاتلهم شهراً حتى نزلوا على حكمه، فقتل المقاتلة وصلب منهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره وقاد منهم اثني عشر ألف نفس إلى وادي جرجان فقتلهم وأجرى الدماء في الوادي.
وفيها غزا داود بن سليمان بن عبد الملك أرض الروم وفتح حصن المرأة مما يلي ملطية.
وفيها عادت الزلازل أربعين يوماً، وقيل: ستة أشهر، فهدمت القلاع والأماكن العالية.
وفيها استعمل سليمان عروة بن محمد بن عطية السعدي على اليمن.
وفيها توفي أيوب ابن الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مران؛ وأم أيوب المذكور أم أبان بنت سليمان بن الحكم، وقيل: بنت خالد بن الحكم، وكان شاباً جليلاً.
وفيها توفي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكنيته أبو عبد الله، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، وكان عالماً زاهداً، وهو أحد الفقهاء السبعة المشار إليه في الأبيات السابقة بعبيد الله، وكان الزهري يلازمه ويأخذ عنه.
وفيها فتحت مدينة الصقالبة ببلاد المغرب.
وفيها حج بالناس عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وهو أمير مكة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وتسعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشرة ذراعاً وستة أصابع.
ــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب : النجوم الزاهرة فى أخبار ملوك مصر والقاهرة ـ الجزء الأول ص 231ـ 236