فلما ولى مسلمة مصر انتظمت غزواته فى البر والبحر : منها غزوة القسطنطينية الآتى ذكرها ، ولم يحضرها غير أنه حسن لمعاوية غزوها ، وفى أيام ولايته على مصر نزلت الروم البُرُلُّس فى سنة ثلاث وخمسين ، فاستشهد فى الوقعة وَرْدَان مولى عمرو بن العاص فى جَمْع من المسلمين ، وفى إمرته لمصر أيضاً هدم مما كان عمرو بن العاص بناه من المسجد بمصر وبناه هو وأمر ببناء مَنار المسجد ، وهو أول من أحدث المنار بالمساجد والجوامع ، وذلك فى سنة 53 هـ ، وأمر المؤذنين أن يكون أذانهم فى الليل فى وقت واحد ، فكان مؤذنوا المسجد الجامع يؤذنون للفجر ، فإذا فرغوا من أذانهم أذن كل مؤذن فى الفسطاط فى وقت واحد .
وخرج مسلمة الى الأسكندرية فى سنة ستين واستخلف على مصر عابس بن سعيد ، فجاءه الخبر بموت معاوية بن أبى سفيان فى شهر رجب منها ، واستخلاف يزيد بن معاوية بعد أبيه ، وكتب اليه يزيد بن معاوية وأقره على عمل مصر ، وكتب اليه أيضاً بأخذ البيعة له ، فندب مسلمة عابساً وكتب اليه من الأسكندرية بذلك ، فطلب عابس من أهل مصر وبايع ليزيد فبايعه الجُند والناس إلا عبد الله بن عمرو بن العاص ، فدعا عابس بالنار ليحرق عليه بابه ، فحينئذ بايع عبد الله بن عمرو ليزيد على كُره منه ، ثم قدم مسلمة من الأسكندرية فجمع لعابس مع الشرطة القضاء فى أول سنة إحدى وستين .
وقال الذهبى : مسلمة بن مخلد الأنصارى له صحبة ورواية ، وحدث عنه شيبان بن أمية وعُلَي ّ بت رَبَاح ومُجاهد بن شُماشة وغيرهم ، قال : وُلدتُ حين قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة ، وقد وُلِّي ديار مصر لمعاوية . انتهى كلام الذهبى .
وقال ابن عبد الحكم : مسلمة بن مخلد الأنصارى لهم عنه حديث واحد ليس لهم عنه غيره ، وهو حديث موسى بن عُلَي عن أبيه أنه سمعه يقول وهو على المنبر : تُوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين ، لم يروِعنه غير أهل مصر ، وأهل البصرة لهم عنه حديث واحد ، وهو حديث أبى هلال الراسبى قال : حدثنا جَبَلة ابن عطية عن مسلمة بن مخلد أنه رأى معاوية يأكل ، فقال لعمرو بن العاص : إن ابن عمّك لَمخْضَد ، ثم قال : أما إنى أقول هذا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( اللهم عَلَّمه الكتاب ومَكِّن له فى البلاد ووَقِّه العذاب ) وربما أدخل بعض المحدثين بين جَبلة بن عطية وبين مسلمة رجلاً .
وقد ولي مسلمة بن مخلد مصر ، وهو أول من جُمع له مصر والمغرب ، وتوفى سنة اثنتين وستين ، وكان يُكنى أبا سعيد ، انتهى كلام ابن عبد الحكم ، وكان مسلمة كثير العبادة .
وأما غزوة القسطنطينية فإنها كانت فى سنة تسع وأربعين ، وكان مسلمة هذا حرض معاوية عليها ، فأرسل معاوية جيشاً كثيفاً وأّمر عليهم سفيان بن عوف وأمر ابنه يزيد بالغزاة معهم ، فتثاقل يزيد واعتذر ، فأمسك عنه أبوه ، فأصاب الناس فى غزاتهم جُوع ومرض شديد ، فأنشد يزيد يقول :
ما إن أُبالى بما لاقت جموعهُمُ . . بالغَذْقَذُونة من حُمّى ومن مُومِ
إذا أتكأت على الأنماط مرتفعاً . . بدَيْر مُرَّانَ عندي أُمُّ كُلثوم
( الفرقدونه أو الغذقذونة هى خلقيدونية أو خلقدون وهى مدينة إغريقية قديمة فى آسيا الصغرى على ضفة البوسفور فى مواجهة بيزنطة ، والموم هو التهاب يصيب الغشاء المحيط بالرئة ، ودير مُرَّان هو دير بالقرب من دمشق على تل مشرف على مزارع الزعفران ورياض حسنة ، وهو دير كبير فيه رهبان كثيرة كان يقصده أهل اللهو من سراة المسلمين مثل دير مِديان قرب بغداد )
وأم كلثوم امرأته وهى ابنة عبد الله بن عامر ، فبلغ معاوية شعره فأقسم عليه ليلحقن بسفيان بأرض الروم ليصيبه ما أصاب الناس ، فسار ومعه جمع كبير ، وكان فى هذا الجيش ابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن الزُبير وأبو أيوب الأنصارى وغيرهم ، فأوغلوا فى بلاد الروم حتى بلغوا القسطنطينية ، فاقتتل المسلمون والروم واشتد الحرب بينهم ، فلم يزل عبد العزيز ( بن زرارة الكلابى ) يتعرض للشهادة فلم يُقتل ، ثم حمل بعد ذلك عليهم وانغمس بينهم فشجره الروم برماحهم حتى قتلوه ، فبلغ معاوية قتله فقال لأبيه : هلك والله فتى العرب ! فقال أبوه لمعوية : ابنى أم ابنك ؟ فقال : ابنك ، فآجرك الله ، فقال :
فإن يمن الموتُ أودى به . . وأصبح مُخُ الكلابيّ زِيرا
فكل فتى شاربَّ كأسَه . . فإما صغيراً وإما كبيرا
قال مجاهد : صليت خلف مَسلمة بن مُخلَّد ، فقرأ سورة البقرة فما ترك أَلِفاً ولا واواً .
وقال بن سعد فى كتاب الطبقات الكبرى من تصنيفه : حدثنا مَعْن بن عيسى ، حدثنا موسى بن عُلَي عن رباح عن أبيه عن مسلمة بن مخلد قال : أسلمت وأنا ابن أربع سنين ، وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربعة عشر سنة .
وقال محمد بن عمرو : يروى مسلمة بن مخلد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : وتحول الى مصر ونزلها ، وكان مع أهل خَرِبتْا ، وكانوا أشد أهل المغرب وأَعَدَّه ، وكان له بها ذكر ونباهة ، ثم صار الى المدينة فمات بها فى خلافة معاوية .
وهذا القول يخالف فيه الجمهور ، والذى قاله المؤرخون : إنه استمر على عمله حتى تُوفى لخمس بقين من شهر رجب سنةاثنتين وستين ، وكانت ولايته على مصر خمس عشرة سنة وأربعة أشهر ، وتولى مصر من بعده سعيد بن يزيد .
وقال الحافظ أبو سعيد عبد الرحمن بن يونس على ما أخبرنا : شهد مسلمة فتح مصر واختط بها ، وَوَلي الجُند لمعاوية بن أبى سفيان ولابنه يزيد بن معاوية ، وروى عنه من أهل مصر : عُلَي بن رباح وهشام بن أبى رُقية وأبو قبيل وهلال بن عبد الرحمن ومحمد بن كعب وغيرهم ، تُوفى بالأسكندرية سنة اثنتين وستين فى ذى القعدة .
حدثنا على بن سعيد الرازى ، حدثنا عثمان بن أبى شيبة ، أخبرنا وكيع ، حدثنا موسى بن عُلَي عن أبيه قال : سمعت مسلمة بن مخلد يقول : ولدت حين قدم النبى صلى الله علية وسلم المدينة وتوفى وانا ابن عشر سنين ، وقد رواه مُعْن بن عيسى وعبد الرحمن بن مهدى وغيرهما عن موسى بن عُلَي .