ثم ولى الإمرة فى غزوة الشأم لأبى بكر وعمر, ثم افتتح مصر حسبما تقدم ذكره ووليها لعمر أولا, ثم وليها لمعاوية ابن أبى سفيان ثانيا على ما أتى ذكره ، وحكى ابن سعد فى كتاب الطبقات : أنه أسلم بعد الحديبية هو وخالد ابن الوليد وعثمان ابن طلحة .
قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبى فى تاريخ الإسلام :وله عدة أحاديث, روى عنه آبناه عبدالله ومحمد,وأبو عثمان الهندى, وقبيصة بن ذؤيب, وعلى بن رباح, وعبد الرحمن بن شماسة, وآخرون؛ وقدم دمشق رسولامن أبى بكر إلى هرقل, وله بدمشق دار عند سقيفة كردوس, ودار عند باب الجابية تعرف ببنى حجيبة,ودار عند عين الحمار, وأمه عنزية , وكان قصيرا يخضب بالسواد.
حدثنا ابن لهيعة عن مشرح بن عقبة بن عامر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص"رواهالترمذى. وقال ابن أبى مُليكة قال طلحة بن عبيد الله :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"عمرو بن العاص من صالحى قريش" اخرجه الترمذى وفيه انقطاع.وقال حماد ابن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال : قال النبى صلى الله عليه وسلم : "آبنا العاص مؤمنان هشام وعمرو". وقال بن لهيعة عن يزيد بن أبى حبيب أخبرنى سويد بن قيس عن قيس بن شفى : أن عمرو بن العاص قال :يا رسول الله , أبايعك على أن يغفر لى ما تقدم من ذنبى ؟قال :"إن الإسلام والهجرة يجبان ما كان قبلهما " قال : فو الله ما ملأت عينى منه ولا رجعته بما أريد حتى لحق بالله , حياءمنه.
وقال الحسن البصرى : قال رجل لعمرو بن العاص : أرأيت رجلا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبه, أليس رجلا صالحا ؟ قال : بلى , قال : قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبك ,وقد استعملك ؛ قال :بلى, فو الله ما أدرى أحبا كان لى منه أو آستعانة بى ,ولكن سأحدثك برجلين مات وهو يحبهما : عبد الله بن مسعود ,وعمار بن ياسر ؛فقال الرجل :ذاك قتيلكم يوم صفين , قال :قد والله فعلنا .
وروى أن عمرا لما توفى النبى صلى الله عليه وسلم كان على عمان ,فأتاه كتاب أبى بكر بذلك. قال ضمرة عن الليث بن سعد :إن عمر رضى الله عنه نظر إلى عمرو ابن العاص يمشى , فقال : ما ينبغى لأبى عبد الله أن يمشى على الأرض إلاأميرا .
قال الذهبى بعد كلام ساقه : ثم إن عمرا قال لمعاوية ـ يعنى فى أيام وقعة صفين ـ : يا معاوية , أحرقت كبدى بقصصك , أترى أنا خالفنا عليا لفضل منا عليه ! لا والله, إن هى إلا الدنيا نتكالب عليها , وآيم الله لتقطعن لى قطعة من دنياك , أولأنا بذنك , قال : فأعطاه مصر , يعطى أهلها عطاءهم وما بقى فله .
ويروى أن عليا كتب إلى عمرو يتألفه , فلما أتاه الكتاب أقرأه معاوية , وقال : قد ترى , وإما أن ترضينى , وإما أن ألحق به ! قال : فما تريد ؟ قال مصر , فجعلها له .
وعن يزيد بن أبى حبيب وغيره ؛ أن الأمر لما صار لمعاوية استكثر طعمة مصر لعمرو , ورأى عمرو أن الأمر كله قد صلح به وبتدبيره وعنائه ,وظن أن معاوية سيزيده الشأم مع مصر فلم يفعل معاوية , فتنكر له عمرو فاختلفا وتغالظا , فدخل بينهما معاوية بن حديح فاصلح بينهما , وكتب بينهما كتابا : إن لعمرو ولاية مصر سبع سنين وأشهد عليهما شهودا , ثم مضى عمرو إليها سنة تسع وثلاثين ( أعنى فى ولايته الثانية) ,فما مكث نحو ثلاث سنين حتى مات .
قال : وكان عمرو من أفراد الدهر دهاءاً وحزماَ ورأياً وفصاحة ، ذكر محمد بن سلام الجمحى : أن عمر بن الخطاب كان إذا رأى رجلاً يتلجلج فى كلامه يقول : خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد .
وقال مُجالد عن الشُعبي عن قبيصة عن جابر قال : صبحت عمر بن الخطاب فما رأيت أقرأ لكتاب الله منه ، ولا أفقه فى دين الله منه ، ولا أحسن مداراة منه ، وصحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلاً أعطى للجزيل منه من غير مسألة ، وصحبت معاوية فما رأيت رجلاً أحلم منه ، وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلاً أبين ، أو قال أنصع ظرفاً منه ، ولا أكرم جليساً ، ولا أسبه سريرة بعلانية منه ، وصحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يُخرج من باب منها الا بمكر لخرج من أبوابها كلها .
وقال موسى بن على بن رباح : حدثنا أبى حدثنا أبو قيس مولى عمرو بن العاص أن عمراً كان يَسرُد الصوم ( يواليه ويُتابعه ) ، وقلما كان يصيب من العشاء أول الليل ، أكثر ما كان يأكل فى السحر . وقال عمرو بن دينار : وقع بين المغيرة بن شعبة وبين عمرو بن العاص كلام فسبه المغيرة ، فقال عمرو : يا آل هُصيص ( آل عمرو بن العاص ) أيسبنى بن شعبة ! فقال عبد الله ابنه : إنا لله ! دعوت بدعوى القبائل وقد نُهى عنها ! فأعتق عمرو ثلاثين رقبة . انتهى كلام الذهبى باختصار .
قلت ( بن تغرى بردى ) : ولما ولى عمرو بن العاص مصر ودخلها سكن الفسطاط ، ولسبب تسمية مصر بالفسطاط أسباب كثيرة ... ثم بدأ فى بناء جامعه الشهير ( جامع عمرو ) وله فى ذلك المسجد خطبة مشهورة أوردها ابن الحكم فى كتابه الشهير ( خطبة عمرو )
استمرت مدة ولايته الأولى خمس سنوات من سنة عشرين هجرية الى سنة خمس وعشرين ، قام في السنة الثانية منها بفتح الإسكندرية وافتتح برقة فى آخرها وصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار ، وفى السنة الثالثة قام بفتح طرابلس الغرب وقيل فى السنة التى بعدها ، وفى السنة الرابعة من ولايته توفى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، وفى آخر عام من ولايته الأولى عام أربع وعشرين من الهجرة ، سار منويل الخصي الى الأسكندرية فسأل أهل مصر عثمان إرسال عمرو بن العاص لقتاله ، فجاء اليها عمرو وحارب حتى افتتحها الفتح الثانى فى هذه السنة ، وقيل : بل كان ذلك فى سنة خمس وعشرين وهو الأصح .
ويذكر أن منويل جاء على رأس جيش من الروم لإنتقاص صلح الإسكندرية ، ولم يكن عمرو بن العاص والياً على مصر ، فقد كان عثمان قد عزله وولى عبد الله بن سعد ، ولما ردَّه عثمان ـ بناء على طلب أهل مصر ـ ردَّه والياً على الأسكندرية لمعرفته بحرب الروم ، وعبد الله بن سعد مقيم بالفسطاط على ولايته .