خطبة عمرو بن العاص رضى الله عنه بجامعه الكبير

أورد جمال الدين أبى المحاسن يوسف بن تغرى بردى الأتابكى فى كتابه ( النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة )  : قال ابن الحكم فى تاريخه ( خُطبة عمرو ) : حدثنا عبد الرحمن حدثنا سعيد بن ميسرة عن اسحاق بن الفرات عن أبى لهيعة عن الأسود بن مال الحميرى عن بجير بن ذاخر المعافرى قال :

 رُحتُ أنا ووالدى الى صلاة الجُمعة وذلك آخر الشتاء بعد خميس النصارى بأيام يسيرة ، فأطلنا الركوع ، إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يزجرون الناس ، فذُعِرت ، فقلت يا أبت ، من هؤلاء ؟ فقال : يا بُنى ، هؤلاء الشُّرط ، فأقام المؤذنون الصلاة ، فقام عمرو بن العاص على المنبر ، فرأيت رجُلاً رَبعَة قَصد القامة ( ليس بالطويل ولا بالقصير ) ، وافر الهامة ، أدعج أبلج ، عليه ثياب مَوشِّية كأن به العَقيان ، تأتلق عليه حُلة وعمامة وجُبة ، فحمد الله وأثنى عليه حمداً موجزاً وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم ، فسمعته يحض على الزكاة وصلة الأرحام ويأمر بالإقتصاد وينهى عن الفضول وكثرة العيال وقال فى ذلك : يا معشر الناس إياكم وخلالاً أربعة ، فإنها تدعو الى النصب بعد الراحة ، والى الضيق بعد السعة ، والى المذلة بعد العزة ، إياكم وكثرة العيال ، وإخفاض الحال ، وتضييع المال ، والقيل بعد القال ، فى غير دَرَك ولا نَوال ، ثم إنه لابد من فراغ يؤول اليه المرء فى توديع جسمه والتدبير لشأنه ، وتَخليته بين نفسه وبين شهواتها ، ومن صار الى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل ، ولا يضيع المرء فى فراغه نصيب العلم من نفسه فيكون من الخير عاطلاً ، وعن حلال الله وحرامه غافلاً .

يا معشر الناس ، إنه قد تدلت الجوزاء ، وَذَكت الشِّعرى ، وأقلعت السماء ، وارتفع الوباء ، وقل الندى ، وطاب المرعى ، ووضعت الحوامل ، ودرجت السخائل ، وعلى الراعى برعيته حُسن النظر ، فحىَّ لكم على بركة الله الى ريفكم فنالوا خيره ولبنه وخرافه وصيده ، وأربِعوا خيلكم وأسمنوها وصُنوها وأكرموها ، فإنها جُنَتُكم من عدوكم وبها مغانمكم وأنفالكم ، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيراً ، وإياكم والمسومات والمعسولات فإنهن يُفسدن الدين ويُقصرن الهمم .

حدثنى عُمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله سيفتح عليكم بعدى مِصر فاستوصوا بقبطها خيراً فإن لكم منهم صِهراً وذمة ، فكفوا أيديكم وعِفوا فروجكم وغضوا أبصاركم ، ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه ، واعلموا أنى معترض الخيل كاعتراض الرجال ، فمن أهزل فرسه من غير علة حطَطَته من فريضته قَدر ذلك ، واعلموا أنكم فى رباط الى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم اليكم والى داركمم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية .

وحدثنى عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( اذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جُنداً كثيفاً فذلك خير أجناد الأرض ) فقال له أبو بكر : ولم يا رسول الله ؟ قال : ( لأنهم وأزواجهم فى رباط الى يوم القيامة ) .

فاحمدوا الله يا معشر الناس على ما أولاكم ، فتمتعوا فى ريفكم ما طاب لكم ، فإذا يبس العود وسخن العمود وكثر الذباب وحمض اللبن وصوَّح البقل وانقطع الورد من الشجر ، فحىَّ الى فسطاطكم على بركة الله ، ولا يقدمن أحدُ منكم ذو عيال على عياله ، إلا ومعه تُحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عُسرته ، أقول قولى هذا وأستحفظكم الله عليه .

قال : فحفظت ذلك عنه ، فقال والدى بعد انصرافنا الى المنزل ـ لما حكيت له خطبته ـ إنه يا بُنى يحدو الناس إذا انصرفوا إليه على الرباط كما حداهم على الريف والدعة . 

Read 1600 times