ما لا تعرفه عن شم النسيم

عيد شم النسيم الذى يحتفل به جميع المصريون  منذ عصر قدماء المصريين وحتى الآن هو عيد قومى مصرى لأنه ليس عيداً دينياً بل عيدُ من أعياد الطبيعة . وشم النسيم يسمى فى اللغة الهيروغليفية باسم  شمو(shemo )  وهى تسمية تطلق على أحد فصول السنة المصرية القديمة ، وبمرور الزمن تغير هذا الإسم من  شمو الى  شم خاصة فى العصر القبطى , ثم أضيفت له كلمة النسيم فأصبح شم النسيم  ،وتعنى كلمة شمو  فى الهيروغليفية فصل الحصاد , حيث قسم المصرى القديم السنة ( رنبت )  إلى ثلاثة فصول هى :  

 - أخت : فصل الفيضان  يبدأ من شهر يوليو إلى شهر أكتوبر .

2 ـ برث : فصل بذر البذور ويبدأ فى نوفمبر .

3 ـ شمو : فصل الحصاد ويبدأ فى مارس  .

     وتتكون السنة لدى قدماء المصريين من 12 شهر , والشهر ( آبد ) يتكون من ثلاثة ديكانات , والديكان عشرة أيام .. مضاف إليه خمسة أيام أو شهر صغير(كوجى آن آبد ) عرفت بالأيام المنسية التى ولدت فيها الآلهة ( أوزوريس , إيزيس , نفتيس , حوريس , ست ) ثم أضافوا إليها يوماً سادساً كل أربع سنوات حيث قدموه هدية للمعبود  تحوت  الذى علمهم الحرف والكلمة والتقويم , حيث أن تقويم المصريين هو التقويم التحوتى الذى لا يزال متبعاً حتى الآن .

وشم النسيم هو الإحتفال بمجئ فصل الحصاد الذى تبعث فيه الحياه من جديد وتتكاثر فيه الكائنات وتزدهر فيه الطبيعة , لذلك إعتبر المصرى القديم ذلك اليوم رأساً للسنة المدنيه , وكما جاء فى كتابه المقدس أنه أول الزمان , أو بدئ خلق العالم ، ويقع يوم شم النسيم فى الخامس والعشرين من شهر مارس ( فارمنهات ) الفرعونى ، برمهات  فى التقويم القبطى .

      وقد إختار القدماء هذا اليوم لأنهم تعودوا أن يربطوا أعيادهم بالظواهر الفلكية وعلاقتها بالطبيعة ومظاهر الحياة , فقد كان إحتفالهم بعيد الربيع أو فصل الحصاد الذى حُدد ميعاده بالإنقلاب الربيعى ، وهو اليوم الذى يتساوى فيه الليل بالنهار وقت حلول الشمس فى برج الحمل ،  وكانوا يحددون ذلك اليوم والإحتفال بإعلانه فى ليلة الرؤية , أو لحظة الرؤية عند الهرم الأكبر الذى يصفونه بقولهم ( عندما يجلس الإله على عرشه فوق قمة الهرم ) وهى تمام الساعة السادسة مساء ذلك اليوم حيث يجتمع الناس فى إحتفال رسمى أمام الواجهه الشمالية للهرم فيظهر قرص الشمس قبل الغروب وخلال دقائق محدودة وكأنه يجلس فوق قمة الهرم وتظهر معجزة الرؤية عندما يقسم ضؤ الشمس وظلالها واجهة الهرم إلى شطرين ( لغز الهرم الأكبر ؟! ) . وهنا يتبين مدى إرتباط هذا العيد بمعنى الشمس المشرقة من تلك النقطة المنفردة على الأفق وهى نقطة الإعتدال .

      ظهور الشمس بهذه الهيئة إنما يربطها ربطاً معمارياً فيزيقياً بهياكلها الأرضية وهى المبانى الهرميه , فالهرم هو بيت الشمس على الأرض , أو هو الكيان أو الصرح أو الهيكل المستور لظهورها وحلولها ,  فكيف يكون ذلك ؟ إن الآلهة عند القدماء لا تظهر بحقيقتها الشكلية أو تشخيصها البصرى ولكن فى تجسيد وتوضيح لمفاهيمها الوظيفية المنوطة بها , ولا يمكن التعرف على المعبود عندهم إلا بشكل ناقص أو من خلال إنعكاساته .

      فعندما يتجلى أحد المعبودات مباشرة أمام عيون البشر فإنه يتخذ الشكل الذى يناسبه دون أن يعبر هذا الشكل عن هيئته الحقيقية ويمتنع المشاهد فى إعتقادهم عن النظر إليه لأنه يأخذ بصره ويشتعل ويلقى حتفه , والهرم أيضاً كهيكل للشمس لا نرى حقيقته كما نراها ماديه حجريه ، فإن له مضموناً شفافاً روحياً فى عالم الخلود يستطيع من خلال شفافيته أن يتعامل مع شعاع الشمس المشرقة كمرادف للعقيدة الشمسية القديمة , فهو فى الأصل كريستالى المفهوم إشعاعى المضمون , فإذا أشرقت الشمس من نقطة الإعتدال فى ذلك اليوم تكون عموديه على خط قاعدة الهرم وتظهر وتحل داخله كإنعكاس لقرصها المتوهج الذى يحرم على عابديها النظر إليه فى عليائها ليصير حلولاً أرضياً لشكلها السماوى وهبوطاً لمفهومها ومدلولها إلى مستوى عابديها , وإن كانت مستترة داخل هيكلها الحجرى المادى , وظهورها داخل الهرم يكون على صورة تجسيد مادى يأخذ شكلاً بيضاوياً كإنعكاس منكسر للقرص المستدير القابع داخل هرمها الكريستالى .

       إنه ظهور مادى خارج الهرم يخضع لقوانين الإنكسار الضؤية الطبيعية , ولا يراه فى عقيدتهم إلا من يسمو بروحه وتشف حواسه فيلتقط أهداب شكلها الأرضى البيضاوى الذى تجسدت به , ولا ريب أن هذا الإدعاء إنما كان لكبار الكهنة والمتبحرين يتلمسونه لمن يلونهم ويتبعونهم من عوام الناس وجموع المؤمنين .

      وهنا يكون هذا عيدها الذى تجسدت فيه وولدت من داخل رحم المبنى الهرمى وهبطت لتعلن عن إنبثاق الأرض بعد طول ترقب وإنتظار .

         كما أن هناك مفهوماً معمارياً آخر يتكامل مع ما سبق من مضمون إشعاعى داخلى بالهيكل الهرمى ، يتعامل مع الأهرام كعناصر نورانية مشعة , ولعلنا نجد أوصافاً لعديد من الأهرامات توحى بالمظهر الخارجى المشع بالضؤ إلى محيط الهرم الخارجى , فنجد أن , هرم سنفرو يلمع ويشع ونرى روح ساحورع تلمع من هرمه فى أبو صير , أما هرم مِنرَع بسقارة فهو يلمع وجميل , فما سر هذا اللمعان ؟ وما حقيقته ؟

       لقد علمنا أن أوجه الأهرام كانت مغطاه بطبقة من الحجر الجيرى الأبيض الناصع الذى يجعل الهرم يبدو كدرة لامعة وسط رمال الصحراء ،  ولعل ما يؤكد هذا المنحى إنبعاج الكساء الأبيض كمرآة مقعرة مائلة تعكس الأشعة الساقطة عليها بصورة مجمعة لتتلاقى فى بعد بؤرى يقبع فى مدن بين السماء وبين مسارات السحب وزرقة الفضاء , إن خطوط إلتقاء هذه الأسطح الثلاثة إنما تكشف خريطة مصر المجردة بنيلها الجارى فى دلتاه المثلثة ومساره الخطى بواديه الضيق .

         لقد تحددت مصر كلها بين ضفتى واجهة الهرم مطبوعة على هيئة التاسوع المقدس فى صورة الأضلاع التسعة لتلك المثلثات معلنة إنتماء مصر القديمة الى تلك العقيدة الشمسية , فإذا تعامد شعاع الشمس فى زاوية خاصة فى وقت معين فى ذلك اليوم من عليائه على مسطح الواجهة الهرمية لأصبح هذا الصرح العقائدى فى وضع مادى فريد يتيح له سمواً روحانياً لتواصل قرص الشمس مع هذا الكيان الأرضى تواصلاً إشعاعياً ذهاباً وإياباً ، أوثقق صلة من خلال إتحاد مسارات الأشعة الصادرة من حدقة عين الشمس والمنعكسة على واجهة الهرم فى ذات الإتجاه نحوها الذى يتيح للنظر فى ذلك اليوم قديماً رؤية حزمة ضؤية قوية تستمر لحظات متبادلة الإتجاه بين الشمس فى سمائها وأهراماتها الأرضية , ومن خلال هذا التواصل تقدم مصر نفسها كقربان مقدس للشمس على مذبح الواجهة الهرمية كتصوير تجريدى مبسط لنيلها وأرضها، حيث يسقط شعاع الشمس على واجهة الهرم التى تحمل شكل خريطة مصر المجردة ويرتد مشبعاً وقابضاً لقربانه الثمين ، ليحفظه فى عينه وليباشره بشعاعه ، ويكون المردود فى زعمهم جريان نيلها وكفاية خيراته . ثم يعقب ذلك أن يرد فرعون الذى حل برع كذات واحدة ، تلك الخيرات والمحاصيل الى أهل مصر ثانية كعطية منه تظهر فى تلك الحقول الخضراء والأشجار المثمرة , إن هذا التواصل العقائدى يكون فيه الصرح الهرمى هو الوسيط والمعبد والمذبح لقربان عظيم تكون مصر كلها موضوع هذه التضحية .

        ويقول جيمس هنرى برستيد حجة المصريات فى كتابه ( فجر الضمير ) : ولعل أدق قطعة أدبية حفظت لنا فى متون الأهرام هى أنشودة الشمس التى نجد فيها الملك والمعبود الشمسى نفساً واحدة , وهذه الأنشودة تخاطب مصر بإسهاب معددة لها المنافع التى تتمتع بها فى كنف حماية إله الشمس وسيادته , ومن ثم تقدم مصر لرع ثروتها ومحصولها , ولما كان فرعون يهب تلك المنافع لمصر , فهى من جانبها تقدم له نفس العطايا التى تقدمها لإله الشمس .

      هذه هى ليلة الرؤية أو لحظة الرؤية وفلسفتها ، وبعد هذه اللحظة يعود الناس من الهرم الى منازلهم ويقومون بالإستعداد لتجهيز أدوات لعبهم وموائدهم للخروج قبل شروق الشمس يرتلون فى هذه الليلة دعواتهم وأمانيهم ، فهو بالنسبة لهم ليلة القدر التى يستجيب فيها الإله لدعاء من يرجو فيحقق دعواتهم .فكان الناس يستيقظون فى الصباح الباكر وقبل شروق الشمس ، لأن من تشرق عليه الشمس قبل أن يستيقظ يصبح خمولاً وكسولاً طوال العام .

     ويبدأ الناس يخرجون جماعات إلى الحدائق والحقول والمتنزهات , ليكونوا فى إستقبال الشمس عند شروقها ، وقد تعودوا أن يحملوا معهم طعامهم وشرابهم ويقضوا يومهم فى الإحتفال بالعيد إبتداءاً من شروق الشمس إلى غروبها ، وكانوا يحملون معهم أدوات لعبهم ومعدات لهوهم وآلاتهم الموسيقية , فتتزين الفتيات بعقود الياسمين ( زهر الربيع ) ويحمل الأطفال سعف النخيل المزين بالألوان والزهور ، وتقام حفلات الرقص الزوجى والجماعى على أنغام الناى والمزمار والقيثارة ودقات الدفوف تصاحبها الأغانى والأناشيد الخاصة بالحصاد , كما تجرى المباريات الرياضية والحفلات التمثيلية .

      كانت صفحة النيل تمتلئ بالقوارب التى تزينها الزهور وأغصان الأشجار المثمرة منقوشاً عليها كلمات الترحيب والتهنئة بعيد الحصاد شمو , كان الإحتفال بالعيد يمتد بعد عودتهم إلى المدينة ليستمر حتى شروق الشمس سواء فى المساكن حيث تقام حفلات الإستقبال وتبادل التهنئة ، أو فى الأحياء والميادين والأماكن العامة حيث تقام حفلات الترفيه والندوات الشعبية وكثيراً ماكان المنشد يغنى مهنئاً بالعيد فيقول : إحتفل بهذا اليوم السعيد

واستنشق روائح العطور والزيوت

 وضع أكاليل من زهور اللوتس على ساق أختك وصدرها

 تلك المقيمة فى قلبك والجالسة بجوارك

ولتصدح الموسيقى بالعزف والمنشدين بالغناء

ولا تهتم بشئ

إغتنم فرص المرح والسرور

 قبل أن يجئ اليوم الذى تقترب فيه من الأرض التى تألف السكون .

      وكانت الزهور والخضرة بشيراً ببدء موسم الحصاد , ففيه يملأون المخازن والشونات ( شونى ) بالغلال ويقيمون حفلاً آخر بهذه المناسبة يقدمون فيه بواكير الخلق الجديد من سنابل القمح الخضراء ويضفرونها على شكل علامة (حتب) الهيروغليفية كرمز للخير والسلام ، ويهدونها الإله الذى أنعم عليهم بهذا المحصول الوفير والخير العظيم .

وبعد :

      فقد ظل شم النسيم عيداً للطبيعة والحصاد قائماً من عهد المصريين القدماء وحتى اليوم , ولم تقضى عليه الأديان التى إعتنقها المصريون , من مسيحية وإسلام , بل أصبح حتى اليوم عيداً قومياً يحتفل به المصريون على إختلاف أديانهم فيخرجون كما إعتاد أجدادهم الى الحقول والحدائق يلهون ويمرحون ويأكلون البيض والفسيخ والبصل الأخضر والخس والملانة , ويركبون القوارب على صفحة النيل , إنه العيد الذى أوحت به طبيعة بلدنا الزراعية .. إنه عيد الزراعة .. عيد بعث الحياة .. عيد أول الزمان الذى إنتقل عبر العصور الطويلة ليحتفل به العالم كله فى حضارته القديمة وعصوره الحديثة , ليصبح عيداً مصرياً عالمياً .

    وقد إختلف المؤرخون فى معرفة متى بدأت مصر الإحتفال بهذا العيد , فيرى كثير من الباحثين ومنهم برستيد أن الإحتفال قديم ويرجع الى عصر ما قبل الأسرات وقبل بناء الأهرامات بقرون طويلة ، وأما بلوتارخ أحد المؤرخين الكبار فيرى أن تاريخ شم النسيم يعود الى 4000 سنة قبل الميلاد ، أما اغلبية الباحثين يرون أن الإحتفال بدأ رسمياً إعتباراً من عام 2700 ق م أى نهاية الأسرة الثالثة وبداية الرابعة , وإن كان معروفاً قبل ذلك ، وأنه إنتقل الى حضارات العالم القديم عن طريق مصر .

     وفى الحقيقة أن هذا العيد بدأ عيداً شعبياً يحتفل به المزارعون مع بداية فصل الحصاد واستمر كذلك  حتى تُبُنى رسمياً فى نهاية الأسرة الثالثة وبداية الأسرة الرابعة . ولكن البداية الرسمية لعيد من الأعياد الشعبية لا يعنى أنه لم يكن موجوداً قبل هذه البداية , فعندما نقوم بجمع بعض النصوص الشفاهية وندونها فى كتاب , لا يرجع تاريخ النصوص الى تاريخ طبع الكتاب لأنها موجودة على ألسنة أصحابها قبل الكتاب بكثير ، فهذا العيد موجود مع وجود الزراعة المصرية نفسها لأنه هو التميمة التى تحفظ حصادهم الذى هو كل شئ فى المجتمع الزراعى , لذا فقد أعطوا أهمية كبيرة لمسألة ربط هذا العيد بالآلهة .

 عصام ستاتى 

كتاب شم النسيم

 

Read 6574 times