عبد العزيز بن مروان بن الحكم

هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية القرشى الأموى أمير مصر ، كُنيته أبو الإصَبغ ، مولده بالمدينة ، ثم دخل الشام مع أبيه مروان ، وكانت داره بدمشق ، وهى الدار التى للصوفيه الآن المعروفة بالسُمَيساطية  ( نسبة الى سُميساط ) ، كانت قلعة على الفرات بين قلعة الروم وكلطية .

وهذه الدار كانت لأبى القاسم على بن محمد بن يحيى السُلمى السميساطى المتوفى بدمشق سنة 453 هـ ، وقد وقفها على فقراء المسلمين والصوفية وعرفت باسم الخانقاه السميساطية ، وتعرف اليوم بالشميساتية  ، وكانت لإبنه عمر بن عبد العزيز من بعده ، وولى عبد العزيز بن مروان إمارة مصر لأبيه مروان فى غرة شهر رجب سنة خمس وستين على الصلاة والخراج معاً بعد ما عُهد له بالخلافة بعد أخيه عبد الملك .

وكان السبب فى بيعتهما أن عمرو بن سعيد بن العاص لما هزَم مُصعب بن الزُبير ، حين وجهه أخوه عبد الله الى فلسطين ، رجع الى مروان وهو بدمشق ، فبلغ مروان أن عَمراً يقول : إن الأمر لى من بعد مروان ، فدعا مروان حسان بن ثابت فأخبره بما بلغه عن عمرو ، فقال : أنا أكفيك عمراً ، فلما اجتمع الناس عند مروان عشياً قام حسان فقال : إنه بلغنا أن رجالاً يتمنون أمانى ، قوموا فبايعوا لعبد الملك ثم لعبد العزيز من بعده ، فبايعوا الى آخرهم ، ومات أبوه بعد مدة يسيرة ، واستقر أخوه عبد الملك بن مروان فى الخلافة من بعده ، فأقر عبد العزيز هذا على عمل مصر على عادته ، وقد روى عبد العزيز هذا الحديث عن أبيه وعبد الله بن الزبير وعقبة بن عامر وأبى هريرة ، وروى عنه ابنه عمرو بن عبد العزيز والزهرى وعُلَىّ بن رباح وجماعة .

قال بن سعد : كان تقة قليل الحديث ، وقال غيره : كان يلحن فى كلامه ثم تعلم العربية فأحسن تعلمها ، وكان فصيحاً جواداً ذا مُروءة وكرم ، وكان أبوه مروان عقد له البيعة بعد عبد الملك ثم ولاه مصر ، وهو معدود من الطبقة الثالثة من تابعى أهل الشام ، وكان عبد العزيز هذا قد حدّه عمرو بن سعيد الأشدق فى شراب شربه فوجد عليه ابنه عمر بن عبد  العزيز  ، فلما ولى عمر المدينة وجد إسحق بن علي بن عبد الله بن جعفر فى بيت خُليدَة العرجاء ، فحده عُمر حد الخمر ، فقال إسحق : يا عُمر ، كل الناس جُلدوا فى الخمر ـ يُعرض بأبيه عبد العزيز .

ولما أقام عبد العزيز بمصر وقع بها الطاعون فى سنة سبعين ، فخرج عبد العزيز من مصر ونزل بحلوان فأعجبته فاتخذها سكناً ، وجعل بها الحرس والأعوان وبنى بها الدور والمساجد وعمرها أحسن عمارة وغرس نخلها وكَرمَها ، ثم جهز البعث لقتال ابن الزُبير فى البحر فى سنة اثنتين وسبعين ، ثم لما طالت أيام عبد الملك فى الخلافة بعد قتل عبد الله بن الزبير ثقُل عليه أمر عبد العزيز هذا وأراد أن يخلعه من ولاية العهد ويجعلها عبد الملك لولديه الوليد وسليمان من بعده ، فمنعه قبيصة بن ذُؤيب من ذلك ، وكان قبيصة على خاتم عبد الملك ، وقال له : لا تفعل ذلك ، فإنك باعث على نفسك صوتاً ، ولعل الموت يأتيه فنستريح منه ، فكف عن ذلك ونفسه تنازعه ، حتى دخل عليه روح بن زِنباع الجُذامي ، وكان أجل الناس عند عبد الملك ، فشاوره فى ذلك فقال روح : لو خلعته ما انتطح فيها عنزان ، فبينما هما على ذلك ، وقد نام عبد الملك وروح تلك الليلة عنده ، إذ دخل عليه قبيصة ليلاً ، وكان لا يُحجب عن عبد الملك ، وكانت الأخبار والكُتب تأتيه فيقرؤها قبل عبد الملك ، فقيل له : لقد جاء قَبيصة فقال : آجرك الله يا أمير المؤمنين فى عبد العزيز ، فاسترجع عبد الملك وقال لرَوح : يا أبا زُرعة ، كفانا الله ما أجمعنا عليه ، فقال له قبيصة : فداك ما أردت ولم تقطع رحم أبيك ، ولم تأت ما تُعاب به ، ولم يظهر منك غدر ، وقيل غير ذلك : وهو أن عبد الملك كتب لأخيه عبد العزيز هذا : يا أخى ، إن رأيت أن تُصيًّر الأمر لإبن أخيك الوليد فافعل ، فأبى عبد العزيز ، فكتب إليه عبد الملك ثانية : فاجعله من بعدك ، فإنه أعز الخلق إليَّ ، فكتب عبد العزيز : إنى أرى فى أبى بكر بن عبد العزيز ( يعنى إبنه ) ما تراه فى الوليد ، فكتب عبد الملك إليه ثالثة : فاحمل خراج مصر إليَّ ، فكتب إليه عبد العزيز : إنى وإياك قد بلغنا سناً لم يبلغها أحد من أهلنا ، وإنا لا ندرى أينا يأتيه الموت أولاً ، فإن رأيت ألا تُغَنِّث علي بقية عُمرى ولا يأتينى الموت إلا وأنت واصل فافعل ، فرق له عبد الملك وقال : لا أُغنث عليه بقية عُمره . وقال لابنيه الوليد وسليمان : إن يُرد الله أن يعطيكماها لم يقدر أحد من الخلق على ردها عنكما ، ثم قال لهما : هل قارفتما حراماً قط ؟ قالا  : لا  والله ، فقال عبد الملك : نِلتُماها ورب الكعبة . وقيل : إن عبد العزيز لما رد كلام عبد الملك قال عبد الملك : اللهم إنه قد قطعنى فاقطعه ، فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام : رد على أمير المؤمنين أمره ، فدعا عليه فاستجيب له فيه .

وكانت وفاة عبد العزيز فى 13 جمادى الأولى سنة 86 هـ ، وقيل سنة 85 هـ ، فكانت ولايته على مصر عشرين سنة وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوماً ، وتولى مصر من بعده عبد الملك بن عبد العزيز بن مروان .

وقال محمد بن الحارث المخزومى : دخل رجل على عبد العزيز فى ولايته على مصر يشكوا إليه صِهراً له ، فقال : إن خَتني ظلمنى ، فقال له عبد العزيز : من ختَنَك ؟ فقال : الرجُل الختان الذى يَختِن الناس ، فقال عبد العزيز لكاتبه : ما هذا الجواب ؟ فقال : أيها الأمير ، إنك لحنت والرجُل يعرف اللحن ، وكان ينبغى أن تقول : من خَتنُك ( بالضم ) فقال عبد العزيز : أتُرانى أتكلم بكلام لا تعرفه العرب ؟ والله لا شاهدت الناس حتى أعرف اللحن ( النحو ) ، فأقام فى بيتٍ جُمعة لا يظهر ومعه منم يعلمه النحو ، فصلى بالناس الجُمعة الأخرى وهو أفصح الناس .

وقال الذهبى فى كتابه ( تهذيب التهذيب ) بعد أن ساق نُبذة من نسبه وولايته وروايته بنحو ما قلناه إلا أن قال : روى ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم أن عبد العزيز بن مروان كتب الى بن عُمر : إرفع إليَّ حاجتك ، فكتب إليه ابن عمر ( يعنى عبد الله ) : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اليد العليا خير من اليد السُفلى ، وابدأ بمن تعول ، ولست أسألك شيئاً ولا أردُ رزقاً رزقنيه الله عز وجل .

وقال يزيد بن أبى حبيب عن سُويد بن قيس : بعثنى عبد العزيز بن مروان  بألف دينار لابن عمر فجئتُه بها ففرقها ، وقال محمد بن هانئ الطائي عن محمد بن أبى ابى سعيد قال : قال عبد العزيز بن مروان : ما نظر إلي رجل قط فتأملنى إلا سألته عن حاجته ، ثم قال بعد كلام آخر : وكان يقول عبد العزيز بن مروان : واعجباً من مؤمن يوقن أن الله يرزقه ويوقن أن الله يُخلف عليه ، كيف يدخر مالاً عن عظيم أجر أو حُسن سماع ! قلت : وكان عبد العزيز جواداً ممدَّحاً سيوساً حازماً . قال ابن سعد : مات بمصر سنة خمس وثمانين قبل أخيه عبد الملك بسنة واحدة ، وقال الحافظ بن يونس : ولى مصر عشرين سنة ، وقال الليث بن سعد : توفى فى جمادى الآخرة سنة ست وثمانين ، وله حديث وهو : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( شرُ ما فى الرجل شُح هالع وجُبن خالع ) .

وعبد العزيز هذا هو الذى أشار على أخيه بضرب الدراهم والدنانير ، فضربها فى سنة ست وسبعين ، وعبد الملك أول من أحدث ضربها فى الإسلام فانتفع الناس بذلك ، وكان سبب ضربها أنه كتب فى صدر كتاب الى الروم : قل هو الله أحد ، وذكر النبى صلى الله عليه وسلم مع التاريخ ، فكتب اليه ملك الروم : إنكم قد أحدثتم كذا وكذا فاتركوه وإلا أتاكم فى دنانيرنا من ذكر نبيكم ما تكرهون ، فعظم ذلك عليه فأحضر خالد بن يزيد بن معاوية فاستشاره فيه ، فقال : حرم دنانيرهم واضرب للناس سِكَة وفيها ذكر الله تعالى ( ولا تعفهم مما يكرهون فى الطوامير ) ثم استشار أخاه عبد العزيز فأشار عليه أيضاً بذلك ، فضرب الدنانير والدراهم ، ثم إن الحجاج ضرب الدراهم ونقش فيها ( قل هو الله أحد ) فكره الناس ذلك لمكان القرآن ، فإن الجُنُب والحائض يَمَسها ، ونهى أن يضرب أحد غيره ، فضرب سُمَير اليهودى فأخذه الحجاج ليقتله ، فقال له : عيار دراهمى أجود من عيار دراهمك فلم تقتلنى ؟ فلم يتركه ، فوضع للناس سِنَجَ الأوزان ليتركه فلم يفعل ، وكان الناس لا يعرفون الوزن بل يزنون بعضها ببعض ، فلما وضع لهم سُمير السنج كف بعضهم عن غبن بعض .

وفى رواية القلقشندى فى مآثر الإناقة ( فأمر الحجاج بقتله فقال : انظر فإن لم تكن أجود من دراهمك فاقتلنى ، فوجدها أجود منها ، فأمر بقتله لجرأته على ضربها فقال له : فإنى أعرض عليك أمراً فإن رأيته اصلح للمسلمين من قتلى فأعفنى ، قال : هاته ، فوضع الأوزان : وزن ألف ، وخمسمائة ، وثلاثمائه ، الى وزن ربع قيراط ، فجعلها حديداً ونقشها ، وجاء بها الى الحجاج ، فأعجبه وعفا عنه ، وكان الناس قبل ذلك يأخذون الدرهم الوازن فيزنون به غيره ، وأكثر ذلك يؤخذ عدداً ) .

وأول من شدد فى أمر الوزن وخَلَص الفضة أبلغ من تخليص من كان قبله هو عمر بن هُبَيرة أيام يزيد بن عبد الملك وجود الدراهم ، ثم خالد بن عبد الله القسر أيام هشام بن عبد الملك ، فاشتد فيه أكثر من هبيرة ، ثم ولى يوسف بن عمر فأفرط فى الشدة ، وامتحن يوماً العيار فوجد درهماً ينقص حبة ، فضرب كل صانع ألف سوط ، وكانوا مائة صانع ، فضرب فى حبة واحدة مائة ألف سوط ، وكانت الدراهم الهُبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بنى أمية ، ولم يكن أبو جعفر المنصور يقبل فى الخراج بغيرها ، فسميت الدراهم الأولى مكروهة ، وقيل : إن الدراهم المكروهة هى الدراهم التى ضربها الحجاج ونقش عليها ( قل هو الله أحد ) فكرهها العلماء ، وكانت دراهم الأعاجم مختلفة كباراً وصغاراً ، فكانوا يضربون منها المثقال وزن عشرين قيراطاً واثنى عشر قيراطاً وعشرة قراريط ، وهى أصناف المثاقيل ، فلما ضربوا الدراهم فى الإسلام أُخذ الوسط من ثلث هذا العدد ، وهو أربعة عشر قيراطاً ، فصار الدرهم العربي أربعة عشر قيراطاً ، ووزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل .

السنة الأولى من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر : وهى سنة ست وستين :

فيها عزل عبد الله بن الزبير عن الكوفة أميرها وأرسل عليها عبد الله بن مُطيع ، وفى أثناء هذا الأمر خرج المختار الكذاب من السجن والتف عليه خلق من الشيعة وقويت شوكته وضعف أمر عبد الله بن مطيع معه ، ثم إنه توثب بالكوفة فقاتله طائفة من اهل الكوفة فهزمهم وقتل منهم رفاعة بن شداد وعبد الله بن سعد بن قيس وغَلب على الكوفة ، وهرب منه عبد الله بن مطيع الى بن الزبير ، وجعل المختار يتتبع قتلة الحسين بن على ، ثم افترى المختار على الله أنه يأتيه جبريل بالوحى ، فلهذا قيل عنه : المختار الكذاب ، وفيها أيضاً إلتقى المختار مع عبيد الله بن زياد فقتله وقتل معه شرحبيل بن ذى الكَلاع وحُصين بن نُمير السَّكونى ، واصطلم المختار جيشهم وقتل خلقاً كثيراً وطيف برؤوس هؤلاء .

وفيها حج بالناس عبد الله بن الزُبير ، وكان عامله على المدينة أخاه مُصعب بن الزبير ، وعامله على البصرة عبد الله بن أبى ربيعة المخزومي ، وكان بالكوفة المختار متغلباً عليها ، وبخراسان عبد الله بن خازم .

وفيها توفى أسماء بن حارثة الأَسلَمِي ، وله صحبة وهو من أصحاب الصُفة .

وفيها تُفى أسماء بن خارجة بن حُصين بن حُذيفة بن بدر الفزارى ، سيدُ قومه .

وفيها كان الطاعون بمصر ومات فيه خلائق عظيمة ، وهذا خامس طاعون مشهور فى الإسلام .

أمر النيل فى هذه السنة : الماء القديم سبعة أذرع وسبة أصابع ، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وإصبعان .  

السنة الثانية من ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان على مصر وهي سنة سبع وثمانين.

فيها افتتح قتيبة بن مسلم أمير خراسان بيكند وفيها شرع الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان في بناء جامع دمشق الأموي؛ وكان نصفه كنيسة النصارى، وعلى ذلك صالحهم أبو عبيدة بن الجراح؛ فقال لهم الوليد: إنا قد أخذنا كنيسة مريم عنوة فأنا أهدمها، فرضوا بهدم هذه الكنيسة وإبقاء كنيسة مريم؛ والمحراب الكبير هو مكان باب الكنيسة. ثم كتب الوليد إلى ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان وهو أمير المدينة ببناء مسجد النبي " ص " وكانت ولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة في أوائل هذه السنة أيضاً وله من العمر خمس وعشرون سنة بعد أن صرف عنها هشام بن إسماعيل المخزومي؛ ودام عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة إلى أن عزله الوليد أيضاً بأبي بكر بن عمرو بن حزم.
وفيها حج بالناس عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة؛ وكان على قضاء المدينة أبو بكر بن عمرو بن حزم.
وفيها توفي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد.
وفيها قدم نيزك طرخان على قتيبة بن مسلم فصالحه وأطلق ما في يده من أسارى المسلمين.
وفيها غزا قتيبة المذكور نواحي بخارا فكانت ملحمة عظيمة هزم الله فيها المشركين.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك فافتتح قمقم وبحيرة الفرسان، فقتل وسبى، ويسر الله تعالى في هذا العام بفتوحات كبار على الإسلام.
وفيها توفي قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة بن عمرو الخزاعي، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة والثانية من أهل الشام؛ ولد على عهد رسول الله " ص " عام الفتح، وكان على خاتم الخليفة عبد الملك بن مروان وصاحب أمره وأقرب الناس إليه.
وفيها توفي مطرف بن عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب، أبو عبد الله الحرشي، من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة؛ وكان له فضل وورع ورواية، وكان بعيداً من الفتن.
وفيها توفي أبو الأبيض أعنسي، وهو من التابعين. كان كثر الغزو والجهاد.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وستة عشر إصبعاً. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً .

السنة الثالثة من ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان على مصر وهي سنة ثمان وثمانين :

فيها جمع الروم جمعاً عظيماً وأقبلوا فالتقاهم قتيبة بن مسلم ومعه العباس ابن الخليفة الوليد، فهزم الله الروم وقتل منهم خلق كثير، وافتتح المسلمون سوسنة وطوانة.
وفيها غزا قتيبة أيضاً الترك فزحفوا إليه ومعهم أهل فرغانة وعليهم ابن أخت ملك الصين، ويقال: بلغ جمعهم مائتي ألف، فكسرهم قتيبة، وكانت ملحمة عظيمة أيضاً.
وفيها توفي عبد الله بن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري الخزرجي، من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة ، وفيها كان فتح طوانة من أرض الروم على يد مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك.
وفيها حج بالناس أمير المدينة عمر بن عبد العزيز ووصل جماعةً من قريش، وساق معه بدناً وأحرم من ذي الحليفة - فلما كان بالتنعيم أخبر أن مكة قليلة الماء وأنهم يخافون على الحاج العطش، فقال عمر: تعالوا ندع الله تعالى، فدعا ودعا الناس معه، فما وصلوا إلى البيت إلا مع المطر. وسال الوادي فخاف أهل مكة من شدته، ومطرت عرفة ومكة وكثر الخصب.
وفيها كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره بإدخال حجر أزواج النبي " ص " في المسجد وأن يشترى ما بنواحيه، حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع وأن يقدم القبلة، ففعل عمر ذلك.
وفيها توفي عبد الله بن بسر المازني مازن بن منصور وكان ممن صلى إلى القبلتين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وواحد وعشرون إصبعاً. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.

السنة الرابعة من ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان على مصر وهي سنة تسع وثمانين :

فيها افتتح موسى بن نصير جزيرتي ميرقه ومنرقة، وهما جزيرتان في البحر بين جزيرة صقلية وجزيرة الأندلس؛ وتسمى هذه الغزوة غزوة الأشراف لكثرة الأشراف التي كانوا بها أعني أشراف العرب.
وفيها غزا قتيبة، وردان خذاه ملك بخارا فلم يطقهم ورجع.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك عمورية فلقي جمعاً من الروم فهزمهم الله.
وفيها ولي خالد بن عبد الله القسري مكة وهي أول ولايته.
وفيها غزا مسلمة أيضاً والعباس بن الوليد بن عبد الملك الروم، فافتتح مسلمة حصن سورية وافتتح العباس مدينة أذرولية.
وفيها حج بالناس عمر بن عبد العزيز.
وفيها توفي ظليم مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بإفريقية.
وفيها عزل عمران بن عبد الرحمن عن قضاء مصر بعبد الواحد بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج وله خمس وعشرون سنة.
وفيها توفي عمران بن حطان السدوسي الخارجي. كان شاعر الخوارج؛ وروى عن أبي موسى وعائشة رضي الله عنهما؛ وكان عمران فصيحاً قبيح الشكل، وكانت زوجته جميلة، فدخل عليها يوماً وهي بزينتها فأعجبته وعلمت منه ذلك، فقالت: أبشر فإني وإياك في الجنة ؛ قال: ومن أين علمت؟ قالت: لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وأنا ابتليت بمثلك فصبرت، والصابر والشاكر في الجنة. ومن شعره في عبد الرحمن بن ملجم وقومه: البسيط
يا ضربةً من تقي ما أراد ... بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
أكرم بقومٍ بطون الطيرأقبرهم ... لم يخلطوا دينهم بغياً وعدوانا
قلت: وهذا مذهب الخوارج، فإنهم يكفرون بالمعصية.
وفيها توفي يحيى بن يعمر أبو سليمان الليثي البصري. وكان عالماً بالقراءات والعربية. وهو أول من نقط المصاحف. وكان ولاه الحجاج من بره قضاء مرو، وكان يقضي بالشاهد واليمين.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعاً. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً واثنان وعشرون إصبعاً.

السنة الخامسة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة سبعين:

فيها كان الوباء بمصر، وقيل فيها كان طاعون الجارف المقدم ذكره في لماضية.
وفيها تحول عبد العزيز بن مروان صاحب الترجمة من مصر إلى حلوان حسبما ذكرناه في أول ترجمته، واشتراها من القبط بعشرة آلاف دينار.
وفيها حج بالناس عبد الله بن الزبير.
وفيها كانت مقتلة عمير بن الحباب بن جعدة السلمي.
وفيها تحركت الروم على أهل الشام وعجز عبد الملك بن مروان عنهم لاشتغاله بقتال عبد الله بن الزبير، فصالح ملك الروم على أن يؤدي له في كل جمعة ألف دينار.
وفيها وفد مصعب بن الزبير على أخيه عبد الله بن الزبير بأموال العراق.
وفيها بعث عبد الملك بن مروان خالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العاص بن أمية إلى البصرة ليأخذها في غيبة مصعب بن الزبير.
وفيها توفي الحارث بن عبد الله بن كعب بن أسد الهمداني الكوفي الأعور، راوية علي رضي الله عنه. وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. وقيل: توفي سنة ثلاث وستين.
وفيها توفي عاصم بن عمر بن الخطاب، وأمه جميلة بنت عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري، وكان اسمها عاصمة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة. وعاصم هذا هو جد عمر بن عبد العزيز الأموي لأمه.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع؛ مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وواحد وعشرون إصبعاً. وفي درر التيجان: ثمانية عشر إصبعاً.

السنة السادسة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة إحدى وسبعين:

فيها حج بالناس أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، وعرف بمصر عبد العزيز بن مروان صاحب الترجمة، وهو أول من عرف بها فقام من قبل أخيه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وعرف بمصر.قلت: ومن خلافة مروان بن الحكم إلى هذه الأيام والممالك مقسومة بين خليفتين: عبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان: أما الحرمان والعراق كله فبيد عبد الله بن الزبير؛ والشام ومصر وما يليهما بيد عبد الملك بن مروان، والفتن قائمة بينهما والحروب واقعة في كل سنة. وفيها افتتح الخليفة عبد الملك بن مروان قيسارية الروم في قول الواقدي.وفيها نزع عبد الله بن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة واستعمل عليها طلحة بن عبد الله بن عوف، وهو آخر وا لٍ كان له على المدينة، فدام على المدينة حتى أتاه طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة وأقام طارق بها حتى سار إلى مكة لقتال ابن الزبير.وفيها توفي شتير بن شكل القيسي الكوفي من أصحاب علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما. وشتير بضم الشين المعجمة وفتح التاء فوقها نقطتان وبعدها ياء تحتها نقطتان، وشكل بفتح الشين المعجمة والكاف وآخره لام.
وفيها خرج عبد الله بن ثور أحد بني قيس بن ثعلبة من جهة مصعب بن الزبير بالبحر، فأنتدب لقتله عبد الرحمن بن الإسكاف والتقوا بجواثا فانهزم عبد الرحمن.
وفيها توفي البراء بن عازب بن الحارث بن عدي، أبو عمارة ؛ وهو من الطبقة الثالثة من الأنصار من الصحابة ؛ مات بالكوفة في أيام مصعب بن الزبير. وفيها توفي عبد الله بن خازم بن أسماء بن الصلت السلمي، أبو صالح، أمير خراسان. صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه؛ وكان مشهوراً بالشجاعة، وأصله من البصرة. وخازم بالخاء المعجمة والزاي. وفيها توفي عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي الصحابي، من الطبقة الثانية من المهاجرين. فأول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية ثم خيبر وما بعدها.
وفيها كانت الوقعة بين عبد الملك بن مروان وبين مصعب بن الزبير، وقتل مصعب في المعركة؛ وكان مصعب من أجمل الناس وأشجعهم، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، وكنيته أبو عبد الله والمشهور أبو عيسى؛ وكان مصعب يجالس أبا هريرة؛ ورآه جميل بثينة بعرفات فقال: إن هاهنا لشابا أكره أن تراه بثينة أعني لجماله. ولما قتل مصعب بن الزبير أخذ أمر أخيه عبد الله بن الزبير في إدباره. وقيل: إن قتلة مصعب كانت في سنة اثنتين وسبعين، وهو الأشهر أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وخمسة أصابع؛ مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعاً. وفي درر التيجان: وسبعة عشر إصبعاً.

السنة السابعة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة اثنتين وسبعين:

فيها بنى عبد الملك بن مروان قبة الصخرة بالقدس والجامع الأقصى، وقد ذكرناه في الماضية، والأصح أنه في هذه السنة. وسبب بناء عبد الملك أن عبد الله بن الزبير لما دعا لنفسه بمكة فكان يخطب في أيام منى وعرفة وينال من عبد الملك ويذكر مثالب بني أمية، ويذكر أن جده الحكم كان طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه، فمال أكثر أهل الشأم إلى ابن الزبير؛ فمنع عبد الملك الناس من الحج فضجوا، فبنى لهم القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليصرفهم بذلك عن الحج والعمرة، فصاروا يطوفون حول الصخرة كما يطوفون حول الكعبة وينحرون يوم العيد ضحاياهم؛ وصار أخوه عبد العزيز بن مروان صاحب مصر يعرف بالناس بمصر ويقف بهم يوم عرفة.
وفيها ولى عبد الملك بن مروان طارق بن عمرو مولى عثمان على المدينة، فسار إليها وغلب عليها وأخرج منها طلحة بن عبد الله بن عوف عامل ابن الزبير، وقد تقدم ذلك في الماضية.
وفيها بعث عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير فتوجه إلى مكة وحاصر ابن الزبير إلى أن قتل ابن الزبير في سنة ثلاث وسبعين، على ما يأتي ذكره في محله.
وفيها كان العامل على المدينة طارقاً لعبد الملك بن مروان، وعلى الكوفة بشر بن مروان، وعلى قضائها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وكان على خراسان - في قول بعضهم - بكير بن وشاح، وفي قول بعضهم عبد الله بن خازم.

وفيها توفي عبيدة بن عمرو السلماني المرادي؛ أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكان من كبار الفقهاء. أخذ عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود. وعبيدة بفتح العين وكسر الباء الموحدة.
وفيها على الصحيح مقتلة مصعب بن الزبير: طعنه زائدة الثقفي وقتل معه ابنه عيسى وإبراهيم بن الأشتر ومسلم بن عمرو الباهلي. وقد مر من أخباره في الماضية ما يغني عن ذكره هنا ثانية.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ذراعان وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعاً. وفي درر التيجان: سبعة عشر ذراعاً وستة عشر إصبعاً.

السنة الثامنة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة ثلاث وسبعين:

وفيها قتل أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو بكر، وقيل أبو خبيب، القرشي الأسدي، أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، له صحبة ورواية؛ حاصره الحجاج بن يوسف الثقفي بالبيت الحرام أشهراً ونصب على الكعبة المنجنيق ورمى به على البيت غير مرة حتى قتل ابن الزبير وصلبه. قيل: إن الحسن البصري سئل عن عبد الملك بن مروان، فقال الحسن: ما أقول في رجل الحجاج سيئة من سيئاته. وقتل مع عبد الله بن الزبير هؤلاء الثلاثة: وهم عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي، وعبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي، وعبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي، فهؤلاء من الأشراف، وأما غيرهم فكثير. ومن يوم قتل عبد الله بن الزبير صار في الإسلام خليفة واحد وهو عبد الملك ابن مروان. قلت: ومناقب عبد الله بن الزبير كثيرة يضيق هذا المحل عن ذكرها. وفيها توفيت أسماء بنت أبي بكر أم عبد الله بن الزبير المذكور بعد ابنها عبد الله بمدة يسيرة.
وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة في أربعة آلاف، فساروا إليه في ستين ألفاً فهزمهم محمد واستباح عسكرهم، وقيل: إن هذا كان من ناحية أرمينية. وفيها توفي إياس بن قتادة بن أوفى، من الطبقة الأولى من التابعين، وكان لأبيه قتادة صحبة.
وفيها توفي سلم بن زياد ابن أبيه أمير خراسان. وكان جواداً ممدحاً يعطي ألف ألف الدرهم مات بالبصرة.
وفيها توفي مالك بن أوس بن الحدثان أحد بني نصر بن معاوية بن هارون.
قيل له صحبة، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين.
وفيها استعمل عبد الملك بن مروان أخاه محمداً على الجزيرة وأرمينية، وكانت بحيرة الطريخ التي بأرمينية مباحة لم يتعرض إليها أحد بل كان يأخذ منها من شاء، فمنع من صيدها وجعل عليها من يأخذه ويبيعه، ويأخذ ثمنه، وصارت بعده لابنه مروان ؛ ثم أخذت منه لما انتقلت الدولة الأموية، وهي الآن على ذلك الحجر. ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. وهذا الطريخ من عجائب الدنيا فإنه سمك صغار له كل سنة موسم يخرج من هذه البحيرة في نهر يصب إليها كثيراً يؤخذ بالأيدي وغيرها، فإذا انقضى موسمه لا يوجد منه شيء.
وفيها عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشراً في قول.
وفيها توفي مالك بن مسمع بن غسان الربعي البصري، من الطبقة الأولى من التابعين. ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وتسعة عشر إصبعاً. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثلاثة أصابع.

السنة التاسعة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة أربع وسبعين:

فيها سار الحجاج من مكة، بعدما بنى البيت الحرام، إلى المدينة، فأقام بها ثلاثة أشهر يتعنت أهلها، وبنى بها مسجداً في بني سلمة يعرف به، وأخذ بعض الصحابة وختم عليهم في أعناقهم. روى الواقدي عن ابن أبي ذؤيب عمن رأى جابر بن عبد الله مختوماً في يده ورأى أنس بن مالك مختوما في عنقه، يذلهما بذلك. قال الواقدي: وحدثني شرحبيل بن أبي عون عن أبيه قال: رأيت الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد الساعدي فقال: ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان؟ فقال: قد فعلت ؛ قال: كذبت، ثم أمر به فختم في عنقه برصاص.

وفيها توفي بشر بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية وهو متولي البصرة، وكان ولي العراق والكوفة قبل ذلك. وقحط الناس أيام بشر فاستسقى فمطروا؛ ثم مر بشر بسراقة، وكان سراقة قد عمل فيها أبياتاً، فرأى سراقة يحول الماء من داره؛ فقال بشر: ما هذا يا سراقة؟ فقال: هذا ولم ترفع يديك في الدعاء، فلو رفعتهما لجاءنا الطوفان. ومات بشر المذكور من البلاذر، فإنه شربه بطوس فاعتل ولزم الفراش حتى مات.
وفيها توفي رافع بن خديج بن رافع بن عدي الأنصاري الصحابي من الطبقة الثالثة من الأنصار؛ شهد أحداً وما بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنيته أبو عبد الله، وأمه حليمة بنت عروة بن مسعود.
وفيها توفي أبو سعيد الخدري ؛ واسمه سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة، الصحابي من الطبقة الثالثة من الأنصار، واستصغر يوم أحد فرد. قال أبو سعيد: فخرجنا نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من أحد ببطن قباء، فنظر إلي، وقال: سعد بن مالك؟ فقلت: نعم بأبي أنت وأمي. فدنوت منه وقبلت ركبته، فقال: آجرك الله في أبيك، وكان قتل يومئذ شهيداً.
وفيها توفي سلمة بن الأكوع، وكنيته أبو مسلم، الصحابي، من الطبقة الثالثة من المهاجرين. قال سلمة: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات.
وفيها توفي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أبو عبد الرحمن القرشي العدوي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو من الطبقة الثانية من المهاجرين، وأمه زينب بنت مظعون بن حبيب، وهو شقيق حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. أسلم عبد الله قديماً بمكة قبل البلوغ، وهو من العبادلة الأربعة: وهم عبد الله بن عمر هذا، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين؛ وهو من المكثرين في رواية الحديث.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً.

السنة العاشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة خمس وسبعين:

فيها حج بالناس الخليفة عبد الملك بن مروان وخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظنها أول حجته في الخلافة.
وفيها ولى الخليفة عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف على العراق.
وفيها خرج عبد العزيز بن مروان صاحب الترجمة من مصر وافداً على أخيه الخليفة عبد الملك بن مروان بالشام واستخلف على مصر زياد بن حنظلة التجيبي. وتوفي زياد بعد ذلك بمدة يسيرة في شوال ؛ وتخلف على مصر الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان حتى قدم أبوه عبد العزيز من الشام.
وفيها ولى عبد الملك المدينة يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية.
وفيها خرج ملك الروم بجيوشه ونزل على مرعش من أعمال حلب، فندب عبد الملك لقتاله أخاه محمد بن مروان فهزم محمد الروم وغلبهم.
وفيها ضرب عبد الملك بن مروان على الدينار والدرهم اسم الله تعالى.
وسببه أنه وجد دراهم ودنانير تاريخها قبل الإسلام بثلاثمائة سنة أو بأربعمائة سنة مكتوب عليها: باسم الأب والابن وروح القدس. قال الزهري: كانت الدراهم على ثلاثة أصناف: الوافية وزن الدرهم مثقال، والبغلية وزن الدرهم نصف مثقال، والزيادية وزن العشرة ستة مثاقيل. فجمع عبد الملك هذه الأصناف وضربها على ما هي الآن عليه.
وفيها توفي توبة بن الحمير بن عقيل بن كعب بن ربيعة الخفاجي: أحد عشاق العرب، صاحب ليلى الأخيلية بنت عبد الله بن الرحال بن شداد بن كعب؛ وكانت أشعر نساء زمانها لا يقدم عليها غير الخنساء. قيل: إن ليلى هذه دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لها: ما رأى منك توبة حتى عشقك؟ فقالت: ما رأى الناس منك حين جعلوك خليفة!. وقال الشعبي: ودخلت ليلى الأخيلية على الحجاج وأنا حاضر، فقال: ما الذي أقدمك علينا. فقالت: إخلاف النجوم، وقلة الغيوم؛ وكلب البرد، وشدة الجهد، وأنت لنا بعد الله الرفد ؛ فقال لها: صفي حال البلاد؛ فقالت: أما الفجاج فمغبرة، وأما الأرض فمقشعرة، ثم ذكرت أشياء من هذه المقولة إلى أن قالت: وقد أصابتنا سنون لم تدع لنا هبعاً، ولا ربعاً، ولا عافطةً، ولا نافطةً؛ ذهبت الأموال، ونزحت الرجال. وأما أشعار توبة المذكور فيها وتشبيبه بها فكثيرة ليس هذا موضع ذكرها.

وفيها توفي أبو ثعلبة الخشني القضاعي، واسمه جرثوم ؛ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى غزوة حنين، وقيل: إنه شهد بيعة الرضوان وحنيناً ونزل الشام وتوفي بها.
وفيها توفي سليم بن عتر التجيبي المصري أبو سلمة عالم مصر وقاضيها، من الطبقة الأولى من التابعين؛ وهو أول من قص، بمصر في سنة تسع وثلاثين وشهد فتح مصر.
وفيها توفي شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية ابن عامر أبو أمية قاضي الكوفة، من الطبقة الأولى من التابعين الكوفيين، وقيل إنه صحابي. وفيها كان وقوع الطاعون بالكوفة.
وفيها توفي صلة بن أشيم العدوي، أبو الصهباء، من الطبقة الأولى من تابعي الصحابة بالبصرة.
وفيها توفي العرباض بن سارية أبو نجيح السلمي، من الطبقة الثالثة من الصحابة المهاجرين.
وفيها توفي عمرو بن ميمون الأودي أود بني صعب بن سعد من الطبقة الأولى من التابعين، أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلقه.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ذراعان وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعاً وتسعة أصابع.

السنة الحادية عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة ست وسبعين:

فيها خرج صالح بن مسرح التميمي. وكان رجلاً صالحاً ناسكاً، لكنه كان يحط على الخليفتين عثمان وعلي رضي اله عنهما كهيئة الخوارج، فوقع له حروب في هذه السنة إلى أن توفي من جرح أصابه في حروبه بعد مدة في جمادى الآخرة، وعهد لشبيب بن يزيد؛ فوقع لشبيب المذكور مع الحجاج بن يوسف حروب ووقائع كثيرة أكثرها لشبيب على الحجاج حتى دخل شبيب في هذه السنة الكوفة ومعه امرأته غزالة، وكانت غزالة المذكورة تدخل مع زوجها في الحروب، وربما قصدت الحجاج فهرب منها.
وفيها وفد يحيى بن الحكم على الخليفة عبد الملك بن مروان.
وفيها كان الحجاج على العراق وفعل تلك الأفعال القبيحة، وكان على خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى.
وفيها غزا محمد بن مروان الروم من ناحية ملطية.
وفيها توفي حبة بن جوين العرني صاحب علي وحبة بالحاء المهملة والباء الموحدة وهو منسوب إلى عرنة بالعين المهملة المضمومة والراء المهملة والنون.
وفيها حج بالناس أبان بن عثمان بن عفان أمير المدينة بعد أن ولاه عبد الملك إمرتها في أول السنة.
وفيها ولد مروان بن محمد الجعدي المعروف بالحمار، آخر خلفاء بني أمية الآتي ذكره في محله.
وفيها استشهد زهير بن قيس البلوي المصرى، أبو شداد، في واقعة الروم، وقد تقدم ذكره في واقعة إفريقية مع كسيلة وغيره.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ذراعان وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعاً وسبعة أصابع.

السنة الثانية عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة سبع وسبعين:

فيها قتل شبيب بن يزيد بن نعيم بعد أن وقع له وقائع مع الحجاج وعماله؛ وهو شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلت الشيباني الخارجي. خرج بالموصل فبعث إليه الحجاج خمسة قواد فقتلهم واحداً بعد واحد، ثم قاتل الحجاج وحاصره وكسره غير مرة. وكانت امرأة شبيب غزالة من الشجعان الفرسان حتى إنها قصدت الحجاج فهرب منها، فعيره بعض الناس بقوله: الكامل
أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر
وفيها خرج مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك بن مروان من الخلافة وحارب الحجاج إلى أن قتل.
وفيها عبر أمية نهر بلخ للغزو فحوصر حتى جهد هو وأصحابه ثم نجوا بعدما أشرفوا على الهلاك ورجعوا إلى مرو.
وفيها حج بالناس أبان بن عثمان بن عفان وهو أمير المدينة. وكان على البصرة والكوفة الحجاج بن يوسف الثقفي، وعلى خراسان أمية المذكور.
وفيها غزا الصائفة الوليد بن عبد الملك بن مروان.
وفيها توفي جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري في قول.

وفيها توفي عبيد بن عمير بن قتادة الليثي المكي أبو عاصم، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل مكة. قال عطاء: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضى الله عنها فقالت: من هذا؟ فقال: أنا عبيد بن عمير، قالت: أفمن أهل مكة؟ قال: نعم، قالت: خفف فإن الذكر ثقيل. قال مجاهد: كنا نفتخر بفقيهنا ابن عباس، وقاضينا عبيد بن عمير.
وفيها توفي قطري بن الفجاءة المازني، وقيل التميمي؛ كان أحد رؤوس الخوارج ؛ حارب المهلب بن أبي صفرة سنين، وسلم عليه بأمير المؤمنين.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً.

السنة الثالثة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة ثمان وسبعين:

فيها ولي المهلب بن أبي صفرة خراسان نيابة عن الحجاج وهو يوم ذاك أمير البصرة والكوفة وخراسان وكرمان.
وفيها توفي عبد الرحمن بن عبد القاري، وله ثمان وسبعون سنة، ومسح النبي صلى الله عليه وسلم برأسه والقاري: بالياء المشددة.
وفيها غزا محرز بن أبي محرز أرض الروم وفتح أرقلة - فلما رجع بعسكره، أصابهم مطر شديد من وراء درب الحدث فأصيب منه ناس كثيرة. وفيها ولي إمرة الغرب كلها موسى بن نصير اللخمي، فسار إليه وقدم إلى طنجة وقدم على مقدمته طارق بن زياد الصدفي مولاهم الذي افتتح الأندلس، وأصاب فيها المائدة التي يزعم أهل الكتاب أنها مائدة سليمان عليه السلام. وفيها حج بالناس الوليد بن عبد الملك بن مروان، وقيل أبان بن عثمان بن عفان أمير المدينة.
وفيها فرغ الحجاج بن يوسف من بناء واسط. وإنما سميت واسط لأنها بناء واسط بين الكوفة والبصرة، منها إلى الكوفة خمسون فرسخاً وإلى البصرة كذلك.
وفيها عزل عبد الملك عامل خراسان وضم ولايتها وولاية سجستان إلى الحجاج، فسار الحجاج إلى البصرة واستخلف عليها المغيرة بن عبد الله بن أبي، عقيل.
وفيها قدم المهلب على الحجاج فأجلسه معه على سريره وأعطى أصحابه الأموال وقال: هؤلاء حماة الثغور.
وفيها توفي جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري الصحابي، أبو عبد الله؛ وهو من الطبقة الأولى من الأنصار؛ شهد العقبة الثانية مع الأنصار وكان أصغرهم سناً، وأسلم قبل العقبة الأولى بعام، وأراد أن يشهد بدراً فخلفه أبوه على إخوته. وفيها توفي عبد الرحمن بن غنم بن كريب الأشعري ؛ اختلفوا في صحبته؛ ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أنصار أهل الشام بعد الصحابة؛ وقيل: هو تابعي ثقة؛ وقيل: إنه أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلقه. قال ابن الأثير: أدرك الجاهلية وليست له صحبة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.

السنة الرابعة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة تسع وسبعين:

فيها استولى الحجاج بن يوسف على البحرين واستعمل عليها محمد بن صعصعة الكلابي وضم إليه عمان، فخرج عليه الريان البكري فهرب محمد وركب البحر حتى قدم على الحجاج.
وفيها غزا الوليد بن عبد الملك بن مروان ملطية فغنم وسبى وعاد إلى أبيه عبد الملك.
وفيها كان الطاعون العظيم بالشام.
وفيها حج بالناس أبان بن عثمان بن عفان أمير المدينة.
وفيها قتل الخليفة عبد الملك بن مروان الحارث بن عبد الرحمن بن سعد الدمشقي الذي ادعى النبوة، وكان انضم عليه جماعة كبيرة.
وفيها توفي عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي؛ كان من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة ؛ روى عن علي بن أبي طالب وابن مسعود.
وفيها أصاب الناس طاعون شديد حتى كادوا يفنون فلم يغز أحد تلك السنة فيما قيل.
وفيها أصاب الروم أهل أنطاكية وظفروا بهم.
وفيها استعفى شريح بن الحارث من القضاء فأعفاه الحجاج واستعمل على القضاء أبا بردة بن أبي موسى الأشعري.
وفيها توفي النابغة الجعدي؛ واسمه قيس بن عبد الله بن عديس، وقيل عبد الله بن قيس، وقيل حسان بن قيس؛ وكنيته أبو ليلى؛ وكان من شعراء الجاهلية، ولحق الأخطل ونازعه بالشعر؛ وله صحبة ووفادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الذهبي: وقال يعلى بن الأشدق - وليس بثقة - : سمعت النابغة يقول: أنشدت النبي صلى الله عليه وسلم: الطويل

بلغنا السماء مجدنا و جدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال: أين المظهر يا أبا ليلى ؟ فقلت: الجنة، قال: أجل إن شاء الله ثم قلت أيضاً:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يفضض الله فاك " مرتين. ومات النابغة بأصبهان وله مائة وعشرون سنة، وقيل مائة وستون سنة، وقيل مائتا سنة. وفيها توفي محمود بن الربيع، وكنيته أبو إبراهيم؛ ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشر إصبعاً. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً.

السنة الخامسة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة ثمانين:

فيها كان سيل الجحاف بمكة وهلك فيه خلق كثير من الحجاج، فكان يحمل الإبل وعليها الأحمال والرجال والنساء ما لأحد منهم حيلة. وغرقت بيوت مكة وبلغ السيل الركن، فسمي ذلك العام عام الجحاف.
وفيها كان طاعون الجارف بالبصرة في قول بعضهم.
وفيها خرج عبد الواحد بن أبي الكنود من الإسكندرية وركب البحر وغزا الفرنج حتى وصل إلى قبرص ، وفيها هلك أليون عظيم الروم وملكها.
وفيها صلب عبد الملك سعيد بن عبد الله بن عليم الجهني على إنكاره القدر. قاله سعيد بن عفير.
وفيها توفي جبير بن نفير بن مالك، أبو عبد الله اليحصبي الحضرمي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام ؛ أسلم في خلافة الصديق رضي الله عنه. وفيها توفي جنادة بن أبي أمية الأزدي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام.
وفيها توفي حسان بن النعمان الغساني من أولاد ملوك غسان، ويقال: إنه ابن المنذر، صاحب الفتوحات بالمغرب. ولاه معاوية بن أبي سفيان إفريقية.
وفيها توفي زيد بن وهب بن خالد أبو سليمان الجهني، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة.
وفيها توفي السائب بن يزيد بن سعيد الكندي، أبو يزيد، من الطبقة الخامسة من المخضرمين؛ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حدث الأسنان.
وفيها توفي شريح بن هانىء بن يزيد بن نهيك بن دريد بن الحارث بن كعب، من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة. كان من أصحاب علي رضي الله عنه وشهد معه مشاهده؛ وكان قاضي الكوفة وبه يضرب المثل. قال الذهبي: إنه مات سنة ثمان وسبعين.
وفيها حج بالناس أمير المدينة أبان بن عثمان. وكان على العراق والشرق الحجاج.
وفيها قتل معبد بن عبد الله بن عليم الذي يروي حديث الدباغ، وهو أول من قال بالقدر في البصرة. قتله الحجاج وقيل قتله عبد الملك الخليفة بدمشق.
وفيها توفي شقيق بن سلمة الأزدي، أبو وائل. أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره؛ وهو من الطبقة الأولى من التابعين من أهل الكوفة.
وفيها توفي أبو إدريس الخولاني ؛ واسمه عائذ الله بن عبد الله، وقيل عبد الله بن إدريس بن عائذ الله، قاضي دمشق في أيام معاوية وغيره. وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل الشام.
وفيها توفي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أبو جعفر وقيل أبو محمد؛ وأمه أسماء بنت عميس. ولدته بالحبشة في الهجرة؛ وهو أول مولود ولد في الإسلام بالحبشة؛ وهو من الطبقة الخامسة ؛ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حدث الأسنان؛ وقيل إنه كان له يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين.
وفيها توفي عبيد الله بن أبي بكرة الثقفي، وكنيته أبو حاتم، من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل البصرة؛ وأمه هولة بنت غليظ من بني عجل؛ وهو أول من قرأ القرآن بالألحان ؛ وولي قضاء البصرة، وأوفده الحجاج على الخليفة عبد الملك فسأله أن يولي الحجاج خراسان وسجستان.
وفيها توفي العلاء بن زياد بن مطر بن شريح العدوي؛ وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة، وكان من العباد الخائفين.
وفيها توفي معاوية بن قرة بن إياس بن هلال المزني، أبو إياس، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة. كان زاهداً عابداً ورعاً.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً.

السنة السادسة عشرة من ولاية عبد العزيزبن مروان على مصر وهي سنة إحدى وثمانين:

فيها حج بالناس سليمان بن عبد الملك بن مروان وحجت معه أم الدرداء الصغرى.
وفيها خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج بن يوسف وخلع عبد الملك بن مروان من الخلافة، ووقع له بسبب ذلك مع الحجاج حروب، ووافقه جماعة كثيرة على ذلك وكاد أمره أن يتم.
وفيها غزا عبد الله بن عبيد الله بلاد الروم ووصل إلى قاليقلا ففتحها. ويقال: إن أصل الفرات من عندها يجتمع.
وفيها توفي محمد بن علي بن أبي طابى المعروف بابن الحنفية، والحنفية اسم أمه، ولها اسم آخر: خولة بنت جعفر بن قيس؛ ومحمد هذا من الطبقة الأولى من التابعين من أهل المدينة، وكنيته أبو القاسم؛ ولد في خلافة أبي بكر، وقيل لثلاث سنين أو لسنتين بقين من خلافة عمر، وهي السنة التي ولد فيها سعيد بن المسيب؛ وكان ديناً عابداً صاحب رأي وقوة شديدة إلى الغاية.
وفيها كانت مقتلة بحير بن ورقاء الصريمي.
وفيها كان دخول الديلم قزوين وسببه أن العساكر كانت لا تبرح مرابطة بها، فلما كان في هذه السنة كان من جملة من رابط بها محمد بن أبي سبرة الجعفي، وكان فارساً شجاعاً، فلما قدم قزوين رأى الناس لا ينامون الليل، فقال لهم: أتخافون أن يدخل عليكم العدو؛ قالوا: نعم، قال: لقد أنصفوكم إن فعلوا، افتحوا الأبواب، ففتحوها؛ وبلغ ذلك الديلم فبيتوهم وهجموا على البلد وتصايح الناس، فقال محمد بن أبي سبرة: أغلقوا الأبواب فقد أنصفونا، فأغلقوا الأبواب التي للمدينة فقاتلوهم. وأبلى محمد بلاءً س حتى ظفر بهم المسلمون ولم يفلت من ألد يلم أحد، ولم يعد ألد يلم بعدها؛ فصار محمد فارس ذلك الثغر، وكان يدمن شرب الخمر؛ وبقي كذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز فأمر بتسييره إلى كرارة، وهي دار النساك بالكوفة، فسير إليها، فأغارت ألد يلم بعده على فذوين ونالت من المسلمين وظهر الخلل بعده حتى طلب ثانية وأعيد إلى فذوين.
وفيها توفي سويدي بن أغفله، وكنيته أبو أمية، كناه بها عمر بن الخطاب؛ وهو من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة؛ أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفد عليه فوجده قد قبض، وأدرك دفنه وهم ينفضون أيديهم من التراب.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة عشر إصبعاً. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية أصابع.

السنة السابعة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة اثنتين وثمانين:

فيها كانت وقعة الزاوية بين محمد بن الأشعث وبين الحجاج بالبصرة؛ وكان لابن الأشعث مع الحجاج في السنة الماضية وفي هذه السنة عدة وقائع منها: وقعة دخيل يوم عيد الأضحى، وهي وقعة دير الجماجم، ثم وقعة الأهواز، ويقال: إنه خرج مع ابن الأشعث ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل، فيهم علماء وفقهاء وصالحون. وقيل: إنه كان بينهما أربع وثمانون وقعة في مائة يوم، فكانت منها ثلاث وثمانون على الحجاج وواحدة له، فعندما انكسر ابن الأشعث خرج إلى الملك زنبيل والتجأ إليه حتى مات بعد ذلك في سنة أربع وثمانين، وفي موته أقوال كثيرة.
وفيها عزل الخليفة عبد الملك بن مران أبان بن عثمان بن عفان عن المدينة في جمادى الآخرة واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومي، فعزل هشام نوفل بن مساحق العامري عن القضاء بالمدينة وولى عوضه عمرو بن خالد الزرقي.
وفيها غزا محمد بن مران بن الحكم أخو الخليفة عبد الملك أرمينية، فهزم أهلها فسألوه الصلح فصالحهم، وولى عليهم أبا شيخ بن عبد الله فغدروا به وقتلوه. وقيل بل قتل سنة ثلاث وثمانين.
وفيها توفي أسماء بن خارجة بن مالك الفزاري الكوفي، أحد الأجواد. وفد على الخليفة عبد الملك فقال له عبد الملك: بلغني عنك خصال شريفة فأخبرني بها؛ قال أسماء: ما سألني أحد حاجة إلا وقضيتها، ولا أكل رجل من طعامي إلا رأيت له الفضل علي، ولا أقبل علي رجل بحديث إلا وأقبلت عليه بسمعي وبصري؛ فقال له عبد الملك: حق لك أن تشرف وتسود.
وفيها توفي أبو الشعثاء سليم بن أسود بن حنظلة المحاربي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة. وقيل: إن وفاة أبي الشعثاء في غير هذه السنة والأصح فيها.

وفيها توفي عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي، أبو بكر، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة. كان يسجد على كور عمامته، قد حالت بين جبهته والأرض.
وفيها توفي المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة؛ واسم أبي صفرة ظالم بن سراقة، وكنيته أبو خداش، كان خليفة أبيه على مرو فمات في شهر رجب؛ وكان المغيرة جواداً سيداً شجاعأ. ولما وصل الخبر إلى أبيه وجد عليه وجداً عظيماً أثر فيه ذلك، ثم استناب ابنه يزيد بن المهلب على مرو.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعاً. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً.

السنة الثامنة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة ثلاث وثمانين:

فيها حج بالناس أمير المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي.
وفيها توفي أبو الجوزاء أوس بن خالد الربعي البصري، وقيل خالد بن سمير، من الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة.
وفيها توفي روح بن زنباع، أبو زرعة الجذامي الشامي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام؛ وكان متميزاً عند الناس فخاف منه معاوية فعزم على قتله ثم خلى عنه؛ وكان عظيم دولة عبد الملك بن مران، وهو الذي قدم الحجاج بن يوسف الثقفي عند عبد الملك حتى صار من أمره ما صار. وقصته مع الحجاج المذكور مشهورة من قتل عبيده وإحراق خيامه عندما ولي الحجاج حرب مصعب بن الزبير. وروح هذا هو زوج هند بنت النعمان بن بشير، وكانت تكرهه، وهي القائلة: الطويل
وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراسٍ تجللها بغل
فإن نتجت مهراً كريماً فبالحرى ... وإن يك إقراف فمن قبل الفحل
وقد شاع ذلك في زمانها حتى قال بعض الشعراء في صاحب سألة: البسيط،
لي صاحب مثل داء البطن صحبته ... يودني كوداد الذيب للراعي
يثني علي جزاه الله صالحةً ... ثناء هندٍ على روح بن زنباع
وفيها توفي زاذان الكوفي، أبو عبد الله مولى كندة، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة. وكان صالحاً صاحب نسك وعبادة وكان بزازاً.
وفيها توفي عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، أبو محمد الهاشمي، من الطبقة الأولى من التابعين، وأمه هند بنت أبي سفيان؛ ولد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت به أمه إلى أختها أم حبيبة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فقال: من هذا؟ فقالت: ابن عمك وابن أختي، فتفل في فيه ودعا له.
وفيها توفي عبد الله بن شداد بن الهاد، واسم الهاد عمرو الليثي، وسمي الهاد لأنه كان يوقد ناره للأضياف ليلاً ولمن سلك الطريق، وهو من الطبقة الأولى من تابعي المدينة، وأمه سلمى بنت عميس الخثعمية أخت أسماء.
وفيها توفي عبد الرحمن بن يسار، أو بلال أبي ليلى. صحب أبوه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد معه أحداً وما بعدها. وأما عبد الرحمن هذا فإنه تابعي من أهل الكوفة، من الطبقة الأولى، وكان عالماً زاهداً، خرج على الحجاج بن يوسف ة قتل بدجيل وقيل بل غرق في نهر دخيل مع ابن الأشعث.
وفيها توفي معبد الجهني، من أهل البصرة وهو أول من تكلم في القدر، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة، وحضر التحكيم بدومة الجندل.
وفيها توفي المهلب بن أبي صفرة. اسمه ظالم بن سراق بن صبح الأزدي العتكي البصري؛ وفي اسم المهلب أقوال كثيرة، قيل: اسمه سارق بن ظالم، وقيل بالعكس، وقيل طارق بن سارق، وقيل قاطع بن سارق وقيل الذي ذكرناه أولاً؛ الأمير أبو سعيد، أحد أشراف أهل البصرة ووجوههم وفرسانهم؛ ولد عام الفتح في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وولي الأعمال الجليلة، وله مواقف مع الروم وغيرها إلى أن توفي.

السنة التاسعة عشرة من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة أربع وثمانين :
فيها فتحت المصيصة على يد عبد الله بن عبد الملك بن مران.
وفيها افتتح موسى بن نصير ملك درنة من بلاد المغرب، فقتل وسبى حتى قيل: إن السبي بلغ خمسين ألفاً.
وفيها غزا محمد بن مران أرمينية فهزمهم وحرق كنائسهم، وتسمى سنة الحرق.

وفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية؛ وكان من فصحاء العرب وبلغائهم وأجوادهم. كان خرج أيضاً مع محمد بن الأشعث؛ واسمه أيوب بن زيد بن قيس أبو سليمان الهلالي، ثم ندم الحجاج على قتله. وابن القرية هذا له حكايات كثيرة في الجود والكرم والفصاحة، منها: أنه لما أحضره الحجاج ليقتله، فقال له ابن القرية: أقلني عثرتي، واسقني ريقي فإنه ليس جواد إلا له كبوة، ولا شجاع إلا له هبوة، ولا صارم إلا له نبوة؛ فقال الحجاج: كلا! والله لأزيرنك جهنم؛ قال: فأرحني فإني أجد حرها. فأمر به فضربت عنقه، فلما رآه قتيلاً قال: لو تركناه حتى نسمع من كلامه!.
وفيها ولي إمرة الإسكندرية عياض بن غنم التجيبي.
وفيها بعث عبد الملك بن مران بالشعبي إلى أخيه عبد العزيز صاحب الترجمة إلى مصر بسبب البيعة للوليد بن عبد الملك حسبما ذكرناه في صدر ترجمة عبد العزيز.
وفيها حج بالناس هشام بن إسماعيل.
وفيها ظفر الحجاج برأس محمد بن الأشعث وطيف بها في الأقاليم.وفيها قتل الحجاج حطيطاً الزيات الكوفي؛ كان عابداً زاهداً يصدع بالحق؛ قتله الحجاج لتشيعه ولميله لابن الأشعث. قيل: إنه لما أحضره بين يديه قال له الحجاج: ما تقول في أبي بكر وعمر؟. قال: أقول فيهما خيراً، قال: ما تقول في عثمان؟ قال: ما ولدت في زمانه، فقال له الحجاج: يا ابن اللخناء، ولدت في زمان أبي بكر وعمر ولم تولد في زمن عثمان! فقال له حطيط: يا ابن اللخناء، إني وجدت الناس اجتمعوا في أبي بكر وعمر فقلت بقولهم، ووجدت الناس اختلفوا في عثمان فوسعني السكوت، فقال معد لعنه الله معد صاحب عذاب الحجاج: إني أريد أن تدفعه إلي، فو الله لأسمعنك صياحه، فسلمه إليه، فجعل يعذبه ليلته كلها وهو ساكت. فلما كان وقت الصبح كسر ساق حطيط، ثم دخل عليه الحجاج لعنه الله فقال له: ما فعلت بأسيرك، فقال: إن رأى الأمير أن يأخذه مني، فقد أفسد علي أهل سجني، فقال له الحجاج: علي به، فعذبه بأنواع العذاب وهو صابر، فكان يأتي بالمسال فيغرزها في جسمه وهو صابر، ثم لفه في بارية وألقاه حتى مات. وفيها توفي أبو عمرو سعد بن إياس الشيباني صاحب العربية وأيام الناس؛ كان إماماً فيهما؛ وهو من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة؛ شهد القادسية وروى عن عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع ونصف. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وواحد وعشرون إصبعاً.

السنة العشرون من ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر وهي سنة خمس وثمانين:

فيها كانت وفاة عبد العزيز بن مران صاحب الترجمة، حسبما تقدم ذكره، في الطاعون العظيم الذي كان في هذه السنة بمصر وأعمالها، وهو ثامن طاعون كان في الإسلام على قول بعضهم ؛ وقد ذكرنا ذلك فيما مضى في حوادث سنة ست وستين. وفيها غزا محمد بن مران إرمينية فأقام بها سنة وولى عليها عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي، فبنى مدينة أردبيل ومدينة برذعة.
وفيها جهز عبد الله بن عبد الملك بن مران يزيد بن حنين في جيش فلقيه الروم في جيش كثير فأصيب الناس، وقتل سيمون الجرجاني في ألف نفس من أهل أنطاكية. وفيها عزل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة عن خراسان، وولي الفضل أخوه مدة يسيرة ثم عزل أيضاً، وولي قتيبة بن مسلم.
وفيها قتل موسى بن عبد الله بن خازم السلمي، وكان بطلاً شجاعاً وسيداً مطاعاً؛ كان غلب على ترمذ وما وراء النهر مدة سنين وحارب العرب من هذه الجهة والترك من تلك الجهة، وجرت له وقعات عظيمة وآخر الأمر أنه خرج ليلة في هذه السنة بعساكره ليغير على جيش فعثر به فرسه فابتدره ناس من ذلك الجيش وقتلوه. وفيها حج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي.
وفيها توفي عبد الله بن عامر بن ربيعة حليف بني عدي، وكان له لما مات النبي " ص " أربع سنين.
وفيها توفي واثلة بن الأسقع بن عبد العزى بن عبد ياليل، من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وكان ينزل ناحية المدينة، فأتى رسول الله " ص " فصلى معه الصبح وبايعه.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة عشر إصبعاً. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وواحد وعشرون إصبعاً.

Read 3470 times