محمد بن أبى بكر الصديق

محمد بن أبى بكر الصديق محمد بن أبى بكر الصديق محمد بن أبى بكر الصديق

هو محمد بن أبى بكر الصديق ، واسم أبى بكر عبدُ الله بن أبى قُحافة ، واسم أبى قُحافة عُثمانُ ، أسلم ابو قُحافة يوم الفتح فأتى به إبنه أبو بكر الصديق الى النبى صلى الله عليه وسلم يقوده لكبر سنه ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ( لم لا تركت الشيخ حتى نأتيه ؟ ) إجلالاً لأبى بكر رضى الله عنه .

 وأبو قحافة المذكور ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرة بن كعب بن لؤي القُرشي التَيمي ، وكنية محمد ابن أبى بكر هى أبو القاسم ، وأمه أسماء بنت عُميس الخَثْعَميّة ، ومولده سنة حُجة الوداع بذى الحُليفة فى عقب ذى القعدة ، فأراد أبو بكر أن يرد أسماء الى المدينة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( مُرْها أن تغتسل وتُهِلّ ) وكان مُحمد هذا فى حجر على بن أبى طال رضى الله عنه لما تزوج أُمُه أسماء بعد وفاة أبى بكر الصديق فتولى تربيته ، ولما سار علي الى وقعة الجمل كان مُحمد هذا معه على الرجّالة ، ثم شهد معه وقعة صِفِّين ، ثم ولاه مصر فتوجه إليها ودخلها فى النصف من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين ، فتلقاه قيس بن سعد المعزول عن ولاية مصر ، وقال له : ( يا أبا القاسم ، إنك قد جئت من عند أمير لا رأى له ، وليس عزله إياى بمانعى أن أنصح لك وله ، وأنا من أمركم هذا على بصيرة ، وإنى أدُلُك على الذى كُنت أكيد به معاوية وعَمْرا وأهل خرِبْتا فكايدهم به ، فإنك إن كايدتهم بغيره تهلك ) ووصف له المُكايدة التى كان يكايدهم بها ، فاستغشه محمد بن أبى بكر وخالفه فى كل شئ أمره به ، ثم كتب إليه عليّ يُشجعه ويقوى عزمه ، ففتك محمد فى المصريين وهدم دور شيعة عثمان بن عفان ونهب دورهم وأموالهم وهتك ذراريهم ، فنصبوا له الحرب وحاربوه ، ثم صالحهم على أن يُسيرهم الى مُعاوية ، فلحقوا بمُعاوية فى الشام .

وكان أهل الشام لما انصرفوا من وقعة صفين ينتظرون ما يأتى به الحَكمان ، فلما اختلف الناس فى العراق على علي رضى الله عنه ، طمع معاوية فى مصر ، وكان أهل خربتا عُثمانية ، ومن كان من الشيعة أكثر منهم ، فكان معاوية يهاب مصر لأجل الشيعة ، وقصد معاوية أن يستعين بأخذ مصر على حرب علي رضى الله عنه ، قال : فاستشار معاوية أصحابه عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة ويُسر بن أبى أرطأة والضَّحاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد وأبا الأعور عمرو بن سُفيان السُّلَميّ وغيرهم ، وكانوا خواصه ، فجمعهم وقال : هل تدرون ما أدعوكم إليه ؟ قالوا : لا يعلم الغيب إلا الله ، فقال له عمرو بن العاص ، إنما أهمك الذى كان بيننا ( يعنى أنه كان أعطاه مصر لما صالحه على قتال علي ) وقال معاوية للقوم : ما ترون ؟ قالوا : ما نرى إلا رأى عمرو ، قال : فكيف أصنع ؟ فقال عمرو : ابعث جيشاً كثيفاً عليهم رجل حازم صارم تثق اليه فيأتى الى مصر ، فإنه سيأتيه من كان من أهلها على رأينا فنظاهره على من كان بها من أعدائنا . قال معاوية : أو غير ذلك ؟ قال : وما هو ؟ قال : نكاتب من بها من شيعتنا نأمرهم على أمرهم ونُمَنيهم قدومنا عليهم فتقوى قُلوُبهم ونعلم صديقنا من عدونا ، وإنك يا بن العاص امرّؤ بورك لك فى العجلة ، وأنا امرؤ بورك لى فى التؤدة ، قال عمرو : فاعمل برأيك فوالله ما أرى أمرك إلا  صائراً للحرب ، قال : فكتب اليهم مُعاوية كتاباً يُثنى عليهم ويقول : هنيئاً لكم بطلب دم الخليفة المظلوم وجهادكم أهل البغي ، وقال فى آخره : فاثبتوا فإن الجيش واصل إليكم والسلام . وبعث بالكتاب مع مولى له يقال له سُبيع ، فقدم مصر ، وأميرها محمد بن أبى بكر الصديق ، فدفع الكتاب الى مسلمة بن مُخلَّد الأنصارى والى معاوية بن حُديج ، فكتبا جوابه :

أما بعد ، فعجل علينا بخيلك ورَجلك ، فإن عدونا قد اصبحوا لنا هائبين ، فإن أتانا المدد من قِبَلِك يفتح الله علينا ، وذكرا كلاماً طويلاً .

وكان مسلمة ومعاوية بن حُدَيج يقيمان بخربتا فى عشرة آلاف ، وقد باينوا محمد بن أبى بكر ولم يحسن محمد تدبيرهم كما كان يفعله معهم قيس بن سعد بن عبادة أيام ولايته على مصر ، فلذلك انتقضت على محمد الأمور وزالت دولته .

ولما وقف معاوية على جوابهما ، وكان يومئذ بفلسطين ، جهز عمرو بن العاص فى ستة آلاف وخرج معه معاوية يودعه وأوصاه بما يفعل ، وقال له : عليك بتقوى الله والرفق فإنه يُمْنُ ، وبالمهل والتؤدة فإن العجلة من الشيطان ، وبأن تقبل ممن أقبلوا ، وتعفو عمن أدبر ، فإن قَبِلَ فهذه نعمة ، وإن أبى فإن السطوة بعد المعذرة أقطع من الحجة ، وادع الناس الى الصلح والجماعة .

فسار عمرو حتى وصل الى مصر واجتمعت العثمانية اليه ، فكتب عمرو إلى محمد بن أبى بكر صاحب مصر :

( أما بعد ، فنحِّ عنى بدمك يا ابن أبى بكر ، فإنى لا أحب أن يصيبك منى قُلامة ظُفر ، والناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ورفض أمرك ، وندموا على إتِّباعك ، فهم مُسلموك لو قد التَقَت حَلْقَتَا البِطان ، فاخرج منها إنى لك من الناصحين ، ومعه كتاب مُعاوية يقول :

يا محمد إن غِبَّ البغي والظلم عظيم الوبال ، وسفك الدماء الحرام لا يَسْلم صاحبه من النقمة فى الدنيا والآخرة ، وإنا لا نعلم أحداً كان على عثمان أشد منك ، فسعيت عليه مع الساعين وسفكت دمه مع السافكين ، ثم أنت تظن أنى نائم عنك وناسٍ سيئاتك ، وكلام طويل من هذا النمط حتى قال : ولن يسلمك الله من القصاص أينما كنت والسلام ، فطوى محمد الكتابين وبعث بهما الى على بن أبى طالب وفى ضمنهما يستنجده ويطلب منه المدد والرجال ، فردّ عليه الجواب من عند على بن أبى طالب بالوصية والشدة ، ولم يمده بأحد .

ثم كتب محمد الى معاوية وعمرو كتاباً خشن لهما فيه فى القول ، ثم قام محمد فى الناس خطيباً فقال :

( أما بعد ، فإن القوم الذين ينتهكون الحُرمة ويشُبون نار الفتنة قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بجيوشهم ، فمن أراد الجنة والمغفرة ، فليخرج إليهم فليجاهدهم فى الله ، انتدبوا مع كنانة بن بِشر ، فانتدب مع كنانة نحواً من ألفى رجل ، ثم خرج محمد بن أبى بكر فى ألفى رجل ، واستقبل عمرو بن العاص كِنانة وهو على مُقّدمة محمد ، وكِنانة يُسرح لعمرو الكتائب ، فلما رأى عمرو ذلك بعث الى معاوية بن حُدَيج السَّكونىّ ، وفى رواية : لما رأى عمرو كنانة سرح اليه الكتائب من أهل الشام كتيبة بعد كتيبة وكنانة يهزمها ، فاستنجد عمرو بمعاوية بن حُدَيج السَّكونىّ فسار فى أصحابه وأهل الشام فأحاطوا بكنانة .

فلما رأى كنانة ذلك ترجل عن فرسه وترجل أصحابه وقرأ ( وما كان لنفسٍ أن تَمُوتَ إلا بإذنِ الله ِ كِتاباً مُؤجَّلا ) إلى قوله ( وسنجزى الشاكرين ) ، فقاتل حتى قُتل بعد أن قتل من أهل الشام مقتلة عظيمة ، فلما رأى أصحاب محمد ذلك تفرقوا عنه ، فنزل محمد عن فرسه ومشى حتى آوى إلى خَرِبة فآوى إليها ، وجاء عمرو بن العاص ودخل الفُسطاط ، وخرج مُعاوية بن حُديج فى طلب محمد بن أبى بكر ، فسأل قوماً من العُلوج وكانوا على الطريق فقال : هل رأيتم رجلاً من صفته كذا وكذا ؟ فقال واحد منهم : قد دخل تلك الخَرِبة ، فدخلوها فإذا برجل جالس ، فقال معاوية بن حُديج : هو ورب الكعبة ، فدخلوها واستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً ، فأقبلوا به على الفسطاط ، ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق الى عمرو بن العاص ـ وكان فى جُنده ـ فقال : أيُقتلُ أخى صبراً ؟ فأرسل عمرو الى مُعاوية بن حُديج يأتيه بمحمد بن أبى بكر كرامة لأخيه عبد الرحمن بن أبى بكر ، فقال مُعاوية : أيُقتَلُ كنانة بن بشر وأُخلى أنا مُحَمّدَاً !  هيهات هيهات ! فقال محمد : اسقونى ماء ، فقال معاوية بن حُديج : لا سقانى الله إن سقيتُك قطرة ، إنكم منعتم عُثمان الماء ، ثم قتلتموه صائماً فتلقاه الله بالرحيق المختوم ، والله لأقتلنك يا ابن أبى بكر فليسقك الله من الجحيم ، فقال محمد لمعاوية : يا بن اليهودية النسَّاجة ، ليس ذلك إليك ، وأما والله لو كان سيفى بيدى ما بلغتم بى هذا ، فقال له معاوية : أتدرى ما أصنع بك ؟ أدخلك فى جوف حمار ، ثم أحرقه عليك بالنار ، قال محمد : إن فعلتم ذلك لطالما فعلتموه بأولياء الله تعالى ، ثم طال الكلام بينهما حتى أخذ معاوية محمداً ثم ألقاه فى جيفة حمار ميت ثم حرقه بالنار ، وقيل : إنه قطع رأسه وأرسله الى معاوية بن أبى سفيان بدمشق وطِيف به ، وهو أول رأس طيف به فى الإسلام ، ولما بلغ عائشة رضى الله عنها قتل أخيها محمد بن أبى بكر هذا ، وَجِدَت عليه وَجْدَاً عظيماً وأخذت عياله وأولاده وتولت تربيتهم .

وقال أبو مِخْنَف بإسناده : ولما بلغ على بن أبى طالب رضى الله عنه مقتل محمد بن أبى بكر وما كان من الأمر بمصر وتملُك عمرو لها واجتماع الناس عليه وعلى مُعاوية ، قام فى الناس خطيباً فحثهم على الجهاد والصبر والسير الى أعدائهم من الشاميين والمصريين ، وواعدهم الجَرَعَة بين الكوفة والحيرة .

فلما كان من الغد خرج يمشى إليها حتى نزلها فلم يخرج إليه أحد من الجيش ، فلما كان العشيّ بعث الى أشراف الناس فدخلوا عليه وهو حزين كئيب فقام فيهم خطيباً فقال :

( الحمد لله على ما قضى من أمر وقدر من فعل ، وابتلانى بكم وبمن لا يُطيع إذا أمرت ، ولا يُجيب إذا دعوت ، أوليس عجيباً أن مُعاوية يدعو الجُفاة الطِّغام فيتبعونه بغير عطاء ، ويجيبونه فى السنة المرتين والثلاث إلى أى وجه شاء ! وأنا أدعوكم ـ وأنتم أولوا النُهَى وبقية الناس ـ على المعونة وطائفة من العطاء فتتفرقون عنى وتعصُننى وتختلفون عليَّ )

فقام مالك بن كعب الأرحَبى فندب الناس إلى إمتثال أمر علي والسمع والطاعة له ، فانتدب ألفان فأمَّر عليهم مالك بن كعب هذا وقال له علي ّ : سِرْ فوالله ما أظنك تدركهم حتى ينقضى أمرهم . فسار بهم خمساً ، ثم قدم على عليّ جماعة ممن كان مع محمد بن أبى بكر الصديق بمصر ، فأخبروه كيف وقع الأمر وكيف قُتل محمد بن أبى بكر وكيف استقر عمرو فيها ، فبعث الى مالك بن كعب فرده من الطريق ، وذلك لأانه خشى عليهم من أهل الشام قبل وصولهم الى مصر ، واستقر أمر العِراقيين على خلاف عليّ فيما يأمرهم به وينهاهم عنه والخروج عليه والتنقد على أحكامه وأقواله وأفعاله لجهلهم وقلة عقلهم وجفائهم وغلظتهم وفجور كثير منهم ، فكتب علي عند ذلك إلى ابن عباس رضى الله عنه وهو نائبه على البصرة يشكو إليه ما يلقاه من الناس من المُخالفة والمعاندة ، فرد عليه ابن عباس يُسَليه فى ذلك ويُعزيه فى محمد بن ابى بكر ويحثه على تلافى الناس والصبر على مُسيئهم ، فإن ثواب الجنة خيرُ من الدُنيا ، ثم ركب بن عباس إلى الكُوفة إلى عليّ واستخلف على البصرة زياداً .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر : النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة ، الجزء الأول

Read 4662 times